المصريون
د. عصر النصر
قراءة التجارب وعقبة التغيير
تتشابه أحوال الناس ومسالكهم في التعامل مع الأحداث وتنوعها؛ وذلك لتشابه الاستعداد لديهم وتشابه الفطرة, حتى تجري أعمالهم في الجيل الواحد والأجيال المتعاقبة بطريقة واحدة, ومن هنا كان التأريخ صفحة تقرأ ونموذجا يحتذى, هذا وإن كان في تشابه أحوال الناس وتشابه مسالكهم إلا أن ثمة بعدا آخر هو الحاكم في هذا الباب, وهو قراءة التجارب التي تمثل مخزنا مهما من المواقف والأحكام الناشئة عن التعامل المباشر مع الأحداث المختلفة المتتابعة, فقراءة التجارب تريح من عناء السنين, فما يسلكه الناس اليوم هو في حقيقته أمر مضى نحوه في دنيا الناس, وقد سجل لنا التاريخ القديم والحديث جملة كبيرة من التجارب, عرف الناس نتائجها ورأوا فيها ما يمكن أن يكون من التنوع في طرائق العمل, وهذا من التنوع المعتاد عند كل حدث إلا أن المشكل في هذا القدر من التنوع ما يظهر في بعض مسالكه من غياب النظر إلى التجارب والاستفادة منها, حتى تَكررَ الخطأ عينه وجنيت الثمرة نفسها, وما زلنا نرى الفئام من الناس يرجع بعضهم عن طريق يسلكها وتجربة خاض غمارها, وفي الوقت نفسه ما زال هناك من الناس من يسير في نفس الطريق من غير اعتبار أو نظر في حالة من غفلة تضييع معها أعمار وتتبدد جهود, بل قد يؤول الأمر إلى ضياع الدين والأوطان, وقد أوجب هذه الحالة وأضعف الشعور بأهمية المراجعة جملة أسباب, منها : تعلق المراجعة بجماعات وتيارات ترى فيه نقضا لأصول الجماعة أو التيار, حيث ترى أن وجودها بات مرهونا بتلك الأدبيات, دون مراعاة للأصول والثوابت الشرعية وما هو دون ذلك من وسائل أو مسائل فرعية تأتي في باب الظن, وقد تغييب والحالة هذه المصلحة العامة للأمة أو الدين في تحقيق المصلحة الخاصة للجماعة أو التيار, ومن موانع المراجعة كذلك: غياب البعد التأريخي حتى يغلب الجهل بالتأريخ ومجرياته حتى بتنا نكرر الفعل عينه دون وعي, ومن ذلك : غلبة البعد الديني وقد تمثل هذا في أمرين : غياب اعتبار حكم القدر, وغياب أحكام الواقع وأصول تنزيلها, حيث ينطلق كثير من أصحاب المشاريع من رؤية إيمانية محضة تتجرد عن مراعاة القَدَر فترى فيه عدّة كافية لمواجهة كل الصعوبات, وهذا جوهر مشروع التيارات الجهادية, وقد أفضى بنا هذا المسلك إلى أنواع من الاضطراب في المواقف و ضياع لكثير من الجهود والقدرات, وقد دخل في هذا فئام من الشباب ظنوا بذلك تحقيقا للدين, ومن جانب آخر كان لبعض مقررات التراث المعاصر دور مؤثر في صياغة ورسم حدود مشاريع معاصرة, وقد غاب السياق التأريخي المؤثر في بنية هذا التراث حيث مثل توصيفا لعلاقة الإسلام بالعلمانية ومن ورائه الاستعمار الغربي, فجاء معبرا عن روح الإسلام وعلوه في مقابل العلمانية والمستعمر الذي يرعاها, وقد عبر عن هذا التراث مجموعة من الكتابات؛ ككتابات محمد محمد حسين, ومحمود شاكر وغيرهم من أبناء ذلك الجيل, إلا أن أبرز الكتابات المؤثرة في الفكر المعاصر والمشاريع المنبثقة عنه كتابات سيد قطب –رحمه الله- حيث كان لها أثر ملموس في بنية أفراد وجماعات, فمثّل تراثه مخزونا فكريا انتفع به الناس, وقد تميز هذا التراث جملة بأنه منصب على جانب التنظير, وهذا النوع من التراث لا تكاد تراعى فيه أحكام الواقع أو التطبيق, فقد أكتنفه قدر من الترف المعرفي خصوصا إذا اعتبرنا ما تقدم من السياق التأريخي, وقد بقي هذا التراث حبيس كتب أصحابه دون تطبيقه في عهدهم وهو بهذا يغاير تراث كثير من الجماعات, حيث فقد الموازنات الواقعية وهو أمر مقبول على مستوى التنظير, وأما التطبيق فيحتاج إلى قدر من الموازنات التي تراعي الواقع, وهذا بدوره تسبب بنوع من عموم الطرح وقد عزز هذا الأمر طبيعة المرحلة حيث وجد الاستعمار وتوابعه الفكرية والثقافية وغياب الحكم بالشرع وتداعيات سقوط دولة الخلافة, ومن المعلوم أن وصف هذه الحالة سيأخذ أعلى مستويات التعبير والحكم حيث يتعلق الأمر بالإيمان والإسلام مقابل ما يخالفهما, ومن هنا ظهر لدينا أخطاء منهجية في التعامل مع هذا التراث, من ذلك : أن العموم في الطرح ترك المجال لكثير من الشباب المتحمسلترجمة هذا التراث على الواقع بصور متعددة نتج عنها ما لا يرتضيه صاحب الفكر نفسه, حيث نَظر إليها بعضهم على أنها ممثلة لحقيقة الإسلام الذي لا يقبل التنازل أو التبديل, وقد دخلنا بنوع من المثالية والطهر لا تتوافق وواقع الناس اليوم, وما زال هذا التراث يستدعى عند كل حدث حتى غاب خلف هذه المواقف النظرُ في أحكام الواقع, ومن أهم تلك الأحكام ما يتعلق بتحديد نوع المطلب والمعركة, فعندما يكون مطلبك المحافظة على الهوية أو الوجود لا ينبغي أن تتجاوز ذلك إلى ما لا يستطاع مما هو وراءَه, ومن أسباب الإشكال فيما تقدم انحصار الجيل في تجارب معينة وترك ما هو أكثر نضوجا منها و أقدر؛ كتجربة ابن باديس والإبراهيمي والعقبي وأمثالهم مما يستدعي لفت النظر إليها وإعادة إعمالها حيث تتشابه أحوال أهلها مع أحوال الناس اليوم, فقراءة التجارب تذهب بعناء السنين .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف