ما حدث أمس في بورسعيد هو إنذار جديد ، ضمن سلسلة من الإنذارات الشعبية العفوية التي شهدتها مصر في الأسابيع الماضية ، سواء من توابع غرق مركب رشيد أو صرخة سائق التوكتوك أو الشاب الذي أحرق نفسه بالاسكندرية أو صرخات أخرى متعددة انتشرت عبر فيديوهات قصيرة بالصوت والصورة ، وهي رسائل إيجابية للغاية بالنسبة للقيادة السياسية التي تحسن استقبالها وفهمها والتعامل "السياسي" الجاد والمسئول معها ، أما من يتحصنون بالمكابرة والإلهام الذي يتصورونه في شخصياتهم ويتترسون بآلة قمع أمنية أو غيرها ، فهؤلاء هم الذين لا يستفيدون من تلك الرسائل التي هي مقدمات حقيقية للزلزال ، وبالتالي يفاجأون بالأرض تميد من تحت أقدامهم في اللحظات الأخيرة ، وساعتها لا تفيد مراجعة ولا تنفع إعادة قراءة للرسائل . في بورسعيد خرج الآلاف يهتفون ضد قيادات سياسية ومؤسسية ، وهي هتافات خطيرة ، وتستعيد ـ تقريبا ـ نفس الهتافات التي عرفها ميدان التحرير في ثورة يناير ، وهي متداولة على شبكات الانترنت بما يغني عن عرض ما فيها هنا ، وبعضها لا يصلح عرضه هنا ، غير أن الرسائل التي أتت من بورسعيد تحمل دلالات إضافية عما سبق من أحداث ورسائل ، وهي رسائل تؤشر إلى خطر حقيقي من انفجار شعبي قادم لا محالة ولن تنفع معه أي أدوات سيطرة . الانفجار المحدود الذي حدث في بورسعيد كان في "تفريعة" صغيرة من هموم المصريين الآن ، وهي السكن ، حيث كان الأهالي قد تعاقدوا مع المحافظة على شقق الاسكان الاجتماعي قبل سنوات بمقدمات عشرة آلاف جنيه ، وبعد أن تم المشروع فوجئ الحاجزون ـ وكلهم من البسطاء والفقراء ـ أن الدولة تطالبهم بأربعة أضعاف هذا المقدم ، حوالي سبعة وأربعين ألف جنيه ، فانفجر الغضب في الشوارع على الصورة التي شاهدها العالم كله أمس ، والتي اضطرت الدولة إلى التراجع السريع عن قرارها والعودة إلى الالتزام بمقدم العقد المتفق عليه سابقا وهو العشرة آلاف جنيه ، لتهدئة الخواطر وتفكيك الانفجار . انفجار الناس في بورسعيد كان في هم واحد ، وهو السكن ، فكيف إذا تشعبت الهموم ، وشملت باقي ضغوطات الحياة والأسر ونفقاتها ، هذا جانب من رسائل بورسعيد أمس أعتقد أنه يتوجب على السلطات دراسته بعناية . الجانب الآخر ، أن بورسعيد هي المدينة التي شهدت أكثر من مذبحة دموية راح ضحيتها العشرات من القتلى بخلاف المصابين ، إحداها كانت في مذبحة الاستاد الشهيرة ، والأخرى في الشوارع المحيطة بسجن بورسعيد ، حيث ووجه المتظاهرون بالرصاص الحي ، وهناك العشرات من أهلها يحاكمون الآن على خلفية التظاهر ، أي أنها المدينة التي شهدت الخوف والموت قبل سنوات قليلة ، ومع ذلك انفجر فيها الغضب فاجتاح الشوارع غير عابئ بالخوف ولا الموت ولا الرصاص ، وهذه ـ في الحسابات السياسية ـ رسالة شديدة الخطورة ، على أن نفسية الشعب وجرأته بعد ثورة يناير اختلفت تماما ، وأصبح من الصعب أن تخضعه بالخوف أو أي أدوات الردع إذا ما زاد الضغط وانسدت أمامه آفاق الحلول لمشكلاته الحياتية الملحة ، وأن الحل الوحيد في مواجهة هذا الغضب الذي يوشك على الانفجار هو حل سياسي ، وليس أمنيا ولا حتى قانونيا . أيضا ، ما حدث في بورسعيد يأتي في ظل وجود تشريع "خالد الذكر" المستشار عدلي منصور لقانون منع التظاهر "تنظيم التظاهر" والذي جعل النزول في أي مظاهرة تهمة خطيرة تتراوح عقوبتها من ثلاث سنوات إلى أفق مفتوح من السنوات ، حسب "التحبيشة" الإضافية التي تضعها مذكرة التحريات للمحكمة ، وكون هذه الآلاف تنزل إلى الشوارع بهذا الغضب غير عابئة بأي قانون رادع أو سجن ولو طال ، هي رسالة أخرى ، على أن التشريعات المقيدة والمخيفة لم تعد تخيف ، أو أنها تفقد صلاحيتها عندما يصل الغضب الشعبي إلى نقطة حرجة ، مثل تلك التي وصل إليها في بورسعيد . أضف إلى ما سبق أن انفجار الغضب في بورسعيد لم يدع إليه نشطاء ولا سياسيون ولا مؤامرة ولا يحزنون ، الناس العادية ، البسطاء ، هم الذين نزلوا إلى الشوارع بغير نداء ، أي أن الخطر القادم لا تعرف من أين يأتيك وليس له مفاتيح يمكن السيطرة عليها أو التحكم فيها ولا قيادات يمكن ترويضها ، هو غضب شعبي عفوي مجهول المصدر ومجهول المصب . لقد تصرفت الجهات الأمنية في بورسعيد مع الاحتجاجات أمس بحكمة وقدر مناسب من ضبط النفس ، وهو تصرف مسئول بدون شك ، وهو ما أسهم في أن تمر الليلة على خير ، لأن أي عنف زائد قد يسقط فيه شهداء وهو ما سيكون من شأنه مفاقمة الوضع ، وتحويله إلى مسار آخر أخطر من مجرد احتجاج على مشكلة السكن ، وهي رسالة أخرى بطبيعة الحال ، أن الاحتجاجات الشعبية يستحيل على أي سلطة مسئولة أن تواجهها بعنف مفرط ، لأن العواقب أوخم كثيرا ويمكن أن تخرج الأمور عن السيطرة تماما ، وسيناريوهات ما حولنا كافية للعبرة . ويبقى الأمل قائما في فكر سياسي جديد ، يستقبل تلك الرسائل الجديدة من بورسعيد بشكل صحيح ، وأن يبادر إلى حلول سياسية واجتماعية واقتصادية ، تنفتح على جميع القوى السياسية والمدنية كشركاء في المسئولية والقرار ، لحماية الوطن من هزات لم يعد يحتمل آثارها ونتائجها ، شعبا وحكومة .