المصرى اليوم
عباس الطرابيلى
مصر ودول منابع النيل
كثيرة هى الكتب التى صدرت عن نهر النيل بأقلام الأجانب.. وقليلة تلك الكتب التى صدرت عن أعلام وأساتذة مصريين!! فنحن مثلاً قرأنا ما كتبه الأسترالى آلان مورهيد عن النيل بفرعيه الأساسيين الأزرق والأبيض وما كتبه الألمانى إميل لودفيج.. وما كتبه العلامة الإنجليزى هيرست.. وكانت هذه وغيرها - للمؤلفين الأجانب - هى أهم مصادرنا عن هذا النيل العظيم.. حقيقة قرأت كتباً عظيمة لمؤلفين مصريين كتبوا عن النيل، وربما كان أبرزهم «أبوالجيولوجيين» العرب الدكتور رشدى سعيد.. وأيضاً كتاب الدكتور عوض محمد عوض الذى أصبح وزيراً للمعارف عام 1954 وكتاب الدكتور الشرقاوى.. ثم تلك المحاضرة القيمة التى ألقاها أشهر وزير للرى المصرى، هو عثمان محرم باشا، فى جمعية المهندسين الملكية المصرية، فى مايو 1947، ومحاضرة عبدالقوى أحمد باشا، وزير الأشغال السابق، أو محاضرة المهندس يوسف بك سميكة عن تخزين مياه النيل سواء فى بحيرة تانا أو فى البحيرات العظمى «الاستوائية» مثل فيكتوريا أو غيرها، أو محاضرة فؤاد باشا أباظة، رئيس الجمعية الزراعية الملكية، أو على فتحى بك عن مصالح مصر المائية فى السودان.

ولكن للأسف معظم هذه المؤلفات وكل هذه المحاضرات كانت قبل عام 1950، فهل كان اهتمام المصريين قديماً بهذا النهر أكثر من اهتمام الأجيال الحالية؟ وظلت هذه القضية تؤرقنى - ومازالت - وهذا ما دفعنى أن أذهب إلى منابع هذا النهر العظيم، خصوصاً المنابع الإثيوبية، بحكم أن النيل الأزرق هو صاحب الكمية الأكبر.. وأن الخطر السياسى والمائى بالتالى يأتينا من هذا النهر من هناك.. وهو ما تحقق بالفعل هذه الأيام.. رغم أن رحلاتى هناك كانت فى التسعينيات.

ولم يكن من المصريين مَن يعلم أن هناك شعوباً أخرى تشاركنا فى هذا النهر بفرعيه، هى الآن 10 دول غيرنا!! وبالتالى مصالح لا يمكن تجاهلها.. وهناك قواعد دولية تنظم الانتفاع بمياه الأنهار لكل من يعيش على النهر الواحد.. أى أننا لم نعد وحدنا.. لاسيما أنهم يملكون مفاتيح المياه بحكم أنهم يعيشون هناك عند هذه المنابع.

وأعترف أن الدكتور رشدى سعيد هو الأب الشرعى للمتخصصين المصريين، الذين وضعونا أمام أهم الحقائق حول المشاكل السياسية للنهر، منذ مدت أمريكا أنفها عام 1959 وقدمت لإثيوبيا مشروعاً متكاملاً لإنشاء 33 سداً على النيل الأزرق وروافده هناك.

وبعد أن زادت هموم الموارد المائية علينا كان للعلماء دورهم، ليقدموا لنا تلك الشعوب التى تعيش على طول وضفتى النهرين: الأزرق والأبيض وروافدهما. هنا دخل فى هذا العمل العلمى الجاد واحد من أساتذة الزراعة.. نعم الزراعة، إذ لا يمكن أن نتحدث عن النيل دون الخوض فى دوره فى الزراعة لأنها تستخدم أكثر من 85٪ من مياه النيل.. وأقصد به الدكتور نادر نور الدين محمد، الأستاذ بكلية الزراعة جامعة القاهرة، إذ أصدر منذ أيام كتاباً أكثر من رائع صادراً من دار نهضة مصر عنوانه: «مصر ودول منابع النيل.. الحياة والمياه والسدود والصراع». والكتاب لم يقف فقط عند جغرافية النهر بل غاص إلى معيشة السكان عليه.. وما بها من أحواض وبحيرات تغذى النهر.. وما بها من ثروات حيوانية وزراعية وسمكية، بل والطاقة الكهربية التى يمكن إنتاجها من هذا النهر بكل روافده وأحواضه.. والأهم قدم لنا الشعوب التى تعيش على ضفافه، وكذلك الاتفاقيات قديمها وحديثها التى تنظم استخدام مياهه.

والكتاب المزود بالخرائط الدقيقة والرسومات المهمة والإحصائيات لا يمكن تقديمه فى مقال واحد.. أو صحيفة كاملة.. ولكنه يجيب عن تساؤلات المواطن العادى، الذى كل ما يهمه هو الاطمئنان أننا لن نموت من العطش.. أو جوعاً بسبب نقص المياه التى تأتينا مع هذا النهر.. وهو يقدم لنا الحياة الكاملة لكل الشعوب التى تشاركنا فى النهر. ويصف لنا رحلة النهر من منابعه إلى أن يصل إلى شمال دلتا مصر.. بل وأيضاً يكشف تدنى الإنتاج الزراعى فى دول النيل مقارنة بالمعدلات العالمية. وينقل لنا مشاكل النهر من التبخر وضياع المياه فى مناطق السدود النباتية.. ويكشف لنا ما غلق عنا عن كل البحيرات التى ينبع منها النهر والصراعات داخل كل دولة. والأهم يشرح لنا مواقف كل دولة تجاه كل الاتفاقيات فى دوله سواء كانت كبيرة مثل الكونغو وإثيوبيا والسودان أو كينيا وتنزانيا، أو فى أصغر دول النيل، مثل بوروندى ورواندا.

ويشرح لنا الدكتور نادر نورالدين أيضاً تفاصيل الاتفاقيات قديمها وجديدها على مدى أكثر من قرن.. ثم يصل إلى السدود التى تهدد نصيب مصر من مياه النهر وبالذات السدود الإثيوبية.. ثم دعاوى دول المنابع أن مصر خرجت بمياه النهر عن مجراه الطبيعى سواء فى سيناء.. أو فى صحراء توشكى.

■ ■ هو كتاب أنصح شباب مصر، قبل شيوخها، بقراءته لأنه يكشف لهم ما سوف يعترض حياتهم، بسبب السدود.. والأهم بسبب الروح العدائية من بعض دول المنابع لنا، فى مصر.

■ ■ والكتاب «439 صفحة» أراه من أهم كتب العام الذى يغوص ليضع ما يمكن أن يهددنا تحت أبصارنا.. وأهم ما فيه أسلوبه العلمى الهادئ البعيد عن الروح الخطابية التى تسود معظم معاركنا حتى الآن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف