الدارسون للتاريخ العربي يتذكرون رسائل السير هنري مكماهون إلي الشريف حسين. إنها تكرار لوساطة الرجل الأبيض الأمريكي بين زعماء الهنود الحمر. تقطر رقة وتبشيراً بالمستقبل الواعد. الخالي من أطماع الاستعمار. كأن كاتبها ابن أو أخ أو أب. كلماتها تنطلق من الحرص علي الوطن العربي. لكن الحقيقة ـ التي عكستها الممارسة ـ اختلفت عن ذلك تماماً. فقد تحولت الأقطار العربية إلي مستعمرات تابعة للغرب. وخاضت شعوبها نضالاً قاسياً. دفعت ثمناً له ملايين الشهداء ـ وليس في الرقم مبالغة! ـ حتي حصلت علي استقلال منقوص. توضح في الحدود التي رسمها الاستعمار لتعميق الفواصل. وإثارة النعرات القبلية والطائفية. ليس بين القطرين المتجاورين. أو حتي المتباعدين. وإنما بين أبناء القطر الواحد. وهو ما ظل الوطن العربي يدفعه من دم شهدائه. ومن موارده الاقتصادية الهائلة. بل ومن اقتطاع أجزاء من أرضه. كالاسكندرونة التي احتلتها تركيا. وعربستان التي استولت عليها إيران. وفلسطين التي انتزعت ـ بالتقتيل والتدمير والنفي والمحو ـ من شعبها العربي. لتصبح ـ بوعد من لا يملك إلي من لا يستحق ـ وطناً للصهيونية. بكل ما أحدثه ذلك من تغيرات مدمرة في بنية الجسد العربي.
لأن العرب لم يتعلموا حتي من ماضيهم القريب. فإنهم لم يحاولوا إعادة النظر إلي صداقة الغرب. التي أفسدت واقعهم ومستقبلهم. متمثلة في عزيزي هنري ـ أقصد هنري كيسنجر رجل الصهيونية الذي قدم لإنقاذ إسرائيل من الهزيمة الكاملة في حرب أكتوبر ـ ومادلين فولبرايت وكوندليزا رايس وجون كيري. وعشرات الأسماء التي حاولت ـ ولا تزال ـ ترسيخ الاستعمار الغربي في الوطن العربي.
الربيع الذي أراده الشعب العربي ربيعاً للخلاص من استبداد حكامه. تدخلت مؤامرات خلفاء مكماهون لتحويله إلي فوضي تشعل النيران في أرجائه. وتجعل السلاح أداة للتعامل بين أبناء القطر الواحد. فضلاً عن جعله أداة للتعامل بين أقطار الوطن العربي عموماً.
الشواهد تطالعنا في الساحة العربية. يحرص عليها. ويوسع رقعتها. ويذكي أوار نيرانها. جون كيري. ومن قبله توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ـ ليست نكتة أنه يتقاضي راتباً خطيراً من الأموال العربية بدعوي محاولة إقرار السلام في المنطقة! ـ والزعم المعلن هو مساعدة العرب علي نيل حقوقهم. وعلي إزالة الخلافات بين أبناء القطر الواحد.
حين يعلن الفلسطينيون غضبتهم علي الاعتداءات الصهيونية البشعة. ينهي جون كيري مهامه في أي موضع في العالم. ويهرع إلي المنطقة لإزالة أي خدش في الوجه الصهيوني. وتعلن واشنطن فرحتها لموافقة إيران علي نزع سلاحها النووي. بينما تصمت عن التهديد الذري الإسرائيلي للوطن العربي. وعندما يوافق مجلس الأمن علي قرار بإدانة إسرائيل. تسقطه واشنطن بحق الفيتو. ومساعي كيري قائمة. ومستمرة. منذ سنوات لحل القضية الفلسطينية. ولحل القضايا العربية ـ العربية. لكن نتائج المساعي الأمريكية بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين تصب ـ دوماً ـ في صالح إسرائيل. وتدخلات السيد كيري لحل الخلافات العربية العربية. سواء علي مستوي القطر الواحد أو الأقطار المتجاورة تعمق الشروخ ـ بامتياز ـ وتضيف إلي عوامل التصدع!
ثمة دروس مستفادة في كل التجارب. لكن العرب يكتفون ـ للأسف ـ باجترار المرارة. والتحسر علي ضياع الفرص!