أمانى هولة
شجون أكتوبرية 8.. (حكايات وطن 90)
مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة متشحة بألوان الرحيل.. مستسلمة لوعد رياح لا تنسى المواعيد.. ولا تنعى الراحلين، وككل عام عبثت أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه.. ذلك اليوم الفارق فى حياتنا، فلا يزال أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن.. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام، ثم أضن عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم، فهل تسمح لى يا قارئى العزيز بأن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به.. أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الخيال بواقع لا يقل روعة عنه.. على أن تترفق بحكاياتى وشجونى.. فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما يجب ألا ننساه.
كتيبة الملائكة
كلما قابلت أحد أبطال أكتوبر المجيد أجد نفسى منجذبة إليه، أسامره فى محاولة دائمة للنهل من نهر ذكريات انحنى لها التاريخ احتراماً..
تغيرت ملامح وجهه الوقور وانفرجت تجاعيد السنين وهو يأخذنا إلى هناك فى عمق الصحراء بعد أيام قليلة من العبور حيث كانت كتيبته مسئولة عن الانتشار فى منطقة مهجورة لم ترَ بشراً منذ 67.. يتجسد فيها المعنى الحقيقى للظلام الدامس عندما يرحل القمر فلا ترى حتى كف يدك.. تمركزوا فى نقطة تبدو آخر حدود الأرض حيث قرر خط الأفق الالتقاء بالسماء.. كان هو المسئول عن حراسة منطقة الميز ليلاً، التى تبعد قليلاً عن المعسكر.. تدجج بعتاده وانطلق فى حماس، وما زالت مشاعر النصر تغمر وجدانه.. كانت ليلة غير مقمرة نجومها البعيدة تبدو خجلى أو هكذا بدت له وهى متوارية خلف غيوم أكتوبر الزاحفة من الشمال.. انتصف الليل وزادت برودته.. يقاومه بالدوران فى دائرة كبيرة على ضوء شعلته الراقصة، معلناً منطقة نفوذه متوجساً، من سكان المنطقة الأزليين من زواحف ووحوش، ولكنه لن يتقاعس عن أداء واجبه فى كل الأحوال.. لتتجمد أطرافه ويقف مذهولاً فجأة.. إنه صوت لا تخطئه أذن عسكرى.. نفير ينطلق، وحركة كتيبة فى طابور انتظام.. يتلفت فى كل اتجاه مشهراً سلاحه.. لا يرى شيئاً.. هل أصابه جنون الصحراء.. تداهمه الأصوات بقوة.. يجرى فى اتجاهات متضادة بلا منطق، فالظلام لا يسمح بأى تفسير.. تتصاعد أنفاسه تطارد دقات قلبه.. يطرق السمع أكثر فى محاولة للتشبث بصمت منشود.. تغتاله خطوات منتظمة لكتيبة غير مرئية.. وصياح قائد حازم (صفا.. انتباه) وتحية العلم.. إنها مراسم عسكرية لكتيبة كاملة لا يرى منها أحداً.. يسقط على ركبتيه بعد أن يأس من إيجاد تفسير وهو يتمتم بما خطر بفكره من آيات الذكر الحكيم.. يركز أكثر لتلتقط أذنه صوت حديث جانبى وكأن اثنين بجواره يتحدثان.
- تمام يا فندم..
- إجازة 48 ساعة والدتك تعبانة شوية والقيادة بعتت إشارة، انت ما أخدتش إجازة بقالك كتير.
- شهرين يا فندم من أبريل.
- بلغ ظابط الإشارة يظبط موجة الراديو، الرئيس جمال عبدالناصر هيقول خطاب.
أبريل؟ الرئيس جمال؟ ما هذا الجنون.. صاح: انتم مين؟.. ليرتد إليه صدى صوته وقد هدأ الجميع.. ظل يقاوم فكرة مغادرة مكان الحراسة متذكراً شرفه العسكرى فيتمسك بالبقاء.. وقد هان الموت فى عينيه بعدما خطف رفاقاً كانوا بالأمس يكبّرون ويحلمون بالعبور.. تجتاحه الأصوات مرة أخرى يحاول أن يفسرها، إنهم يغنون للوطن ولكنه غناء حزين..
فى الصباح وجد نفسه فى خيمة القائد وهو يحاول إفاقته بعد أن وجدوه مغشياً عليه فى مكان حراسته.. لم يعرف ماذا يقول وهل سيتهمونه بالجنون.. ليوقف الحديث دخول أحد الضباط:
«تمام يا فندم مجموعة الاستطلاع وجدت مقبرة جماعية لجنودنا من 67 واضح إنهم رفضوا الانسحاب لأن أسلحتهم لسه موجودة مع رفاتهم.. أوامرك يا فندم»..
لحظتها فقط أدركت لماذا لم أعد خائفاً ورغم أن أحداً لا يجيب، أدركت سر وجود شيخ من الأزهر ضمن الكتيبة.. ولماذا كان دائم التمتمة بآيات الله طوال الطريق ومنذ وصولنا.. وكأنه يطمئن أرواحاً هائمة حولنا.. وقفنا جميعاً لصلاة الجنازة فى خشوع وكأن الكون يصلى معنا.. يردد رجع أصوات تتجاوز أعدادنا بكثير تهز الجبال وتملأ السماء.. آمين.. ومن يومها وحتى رحيلنا ظللت كل يوم أمر أمام شهود قبورهم لأقرأ الفاتحة وأعدهم بأننا على العهد ولم ننسَ.. ولن ننسى.. كتيبة الملائكة.