في لقاء بمكتبة الإسكندرية. منذ أكثر من عشر سنوات دعيت إليه. احتفالا بالشاعر السكندري محمود آدم. سعت إليه ورعته الشاعرة عزة رشاد عضو مجلس اتحاد الكتاب. اعترافا منها بشاعرية محمود آدم. وتكريما له. واحتراما لمجهوده في إحياء الشعر العمودي.
كنت مطالبا بإلقاء كلمة تعطي للشاعر الفيلسوف محمود آدم بعض حقه.
حين جاء دوري لإلقاء كلمتي. قدمتني الشاعرة عزة رشاد إلي الحاضرين. قائلة: المستشار الشاعر.. الرئيس بمحكمة الجنايات بالإسكندرية وأردفت قائلة: وطبعا يُصدر أحكاما بالإعدام. قالتها علي سبيل الدعابة.. علق أحد الحاضرين.. وأيضا يحكم بالبراءة..!!
أعجبني التعليق بقدر ما أزعجني التقديم.
والحقيقة أن القاضي الجنائي حائر دائما بين دفتي ملفات القضايا.. قراءة وبحثا. وتنقيبا وراء كل ورقة. فاحصا كل كلمة حتي يهديه الله العادل إلي كلمة العدل. فينطقها وهو مطمئن البال مستريح النفس سواء كانت براءة أو إدانة.
القاضي الجنائي - دائما - يقرأ أوراق القضايا التي ينظرها مجردا من كل هوي سوي أن المتهم برئ حتي تثبت إدانته لذلك كان حديثي دائما مع زملائي وتلاميذي عن ضرورة قراءة أوراق القضية الجنائية بحثا عن البراءة. فإن لم تكن فالإدانة.. والإدانة درجات لأن المذنبين أنواع.. هناك مذنب بالصدفة. ومذنب عتيق في الإجرام ومذنب اضطر في خطئه. ولكن عقابه المناسب.. المشرع وضع عقوبات لها حد أدني وحد أقصي وجعل حالة استعمال الرأفة وحالات وقف تنفيذ العقوبة اعترافا منه بوجود ظروف تستحق تلك الحالات.
لا يمكن معاقبة المذنبين جميعا بعقوبة متساوية رغم اختلاف درجات الخطأ.. كما أن بعض المذنبين يمتد عقابهم إلي ذويهم. فمثلا: هناك مذنب دخل عالم الجريمة دون أن يدري ودون تخطيط مسبق أو لنوازع إجرامية متأصلة فيه. فإذا عاقبته خُرب بيته أو طلقت زوجته أو ابنته أو حُرم أولاده من الالتحاق بوظيفة يستحقونها.. وهكذا. فالقاضي الجنائي حين ينطق بالإدانة يضع في أعماقه الآثار التي سوف تترتب علي إيقاع حكم الإدانة علي أسرة المحكوم عليه. ومن ثم فالقاضي الجنائي دائما لابد أن يتسم بالإنسانية.. أقول دائما.. إن القضايا الجنائية وقضايا الأسرة "الأحوال الشخصية" تحتاج إلي قاضي إنسان.. ذلك أن القاضي الجنائي يؤدي اطمئنانه النفسي. ونزعته الإنسانية دورا كبيرا في إصدار أحكامه التي تبني دائما علي القطع والجزم واليقين.
قد تكون الأوراق منتظمة انتظاما لا ينفذ منه سِنّ إبرة إلا أن ضمير القاضي الجنائي لا يستريح إلي صدقها وتنظيمها فيحكم بالبراءة تبعا لاقتناعه وضميره الإنساني. حيث لا رقيب عليه إلا الله سبحانه وتعالي.
ذلك عكس القضايا المدنية التي تُبني علي مستندات وأوراق ونصوص قانونية ينزلها القاضي المدني علي الواقعة.
إن القاضي الجنائي يدفعه ضميره الحي وإحساسه الراقي العادل وإنسانيته الشفافة إلي إصدار أحكامه مطمئنا إلي ما في الأوراق أو غير مطمئن مستلهما الله العادل في كل ما ينطق به.