من هم نوابغ هذا الزمان؟!
كثيراً ما يلح على ذهنى هذا السؤال.. وكثيراً ما أخفق فى الإجابة عنه.
لكنى حينما أخذت أقلب فى أوراق الماضى أطلت المفارقة برأسها وأعلنت عن وجودها القاسى فبددت حيرتى.. فما هذه المفارقة؟!
فى أحد أعداد مجلة «الزهور» الصادرة فى عام 1914 التى كان يرأس تحريرها «أنطوان الجميل» (1887 - 1948) وهو لبنانى مارونى انتقل إلى مصر مشتاقاً إلى الحرية النسبية التى كانت تتمتع بها الصحافة فى مصر، اقترح «أنطوان» على القراء أن يختاروا 10 شخصيات فى مصر يرون أنهم أشهر النوابغ.. وأن يرسلوا إلى المجلة بأسمائهم دون ذكر الأسباب التى بنوا عليها اختيارهم.. (وكانت مجلة الزهور فى ذلك الوقت منبراً لكبار أقلام العصر مثل «شوقى» و«حافظ» و«مطران» و«مى زيادة» و«المنفلوطى» و«شبلى شميل» وقد اشترك «أنطوان الجميل» فى إصدارها عام 1910 مع «أمين تقى الدين»).
وجاءت نتيجة الاستفتاء كالآتى بالترتيب:
- «أحمد بك شوقى» (أمير الشعراء) - «حافظ إبراهيم» (شاعر النيل) - و«الشيخ على يوسف» (صاحب جريدة المؤيد) - «جورجى أفندى زيدان» - دكتور «يعقوب صاروف» - «سعد باشا زغلول» (زعيم الأمة) - «خليل مطران» (شاعر القطرين) - «إسماعيل باشا صبرى» (الشاعر) - «مصطفى لطفى المنفلوطى» (الأديب المعروف) - «أحمد بك لطفى السيد» (أستاذ الجيل وصاحب صيحة مصر للمصريين).
هؤلاء هم العشرة الذين أحرزوا أصواتاً أكثر من سواهم.. ويليهم: «فتحى باشا زغلول» و«عبدالخالق ثروت باشا».
كما ذكر من بين النوابغ:
«جورج أفندى أبيض» فى فن التمثيل، و«سمعان بك صيدناوى» فى التجارة و«الشيخ سلامة حجازى» فى الغناء والتلحين..
ولم ينس القراء السيدات الأديبات مثل السيدة «ملك حفنى ناصف» (باحثة البادية) - والآنسة «مى زيادة» (الأديبة المعروفة).
وقد ذكر بعض الظرفاء على سبيل الفكاهة من يعدون نوابغ من نوعهم مثل «حافظ نجيب» (المحتال الشهير).. و«الحاتى» فى شى اللحم.
والملاحظ فى هذا الاستفتاء أن رجال القلم والفكر والأدب والشعر هم أرفع من سواهم فى النفوس.. وأجود مكانة.. وأهم قيمة.. وأعظم شأناً.. وأجل منزلة.. فمن هم يا ترى نوابغ هذا العصر السعيد؟
إنهم بلا شك من يطلقون على أنفسهم «النخبة» من نجوم الفضائيات.. أولئك الذين استشروا وتفشوا فى ظاهرة غير مسبوقة ويُطلق عليهم الوصف الذى أطلقه المبدع الكبير الراحل «نجيب سرور» على الأدعياء من النقاد المتحذلقين الأفاقين.. إنهم (سحالى الجبانات).
ومكمن الداء يتمثل فى انفصامهم الفكرى وثرثرتهم الجوفاء بلغة لا يفهمها العامة.. كما لا يفهمها المثقفون الحقيقيون.. وهم فى عملهم كسحالى الجبانات حنجوريون يشاركون السماسرة وباعة الوهم والمتاجرين بالوطن والدين ولاعبى الثلاث ورقات ولصوص المال العام والأرض والعرض وأصحاب مركبات الموت.. وفلول التجار الذين تزوجوا السلطة الفاسدة فى العصر البائد ويريدون العودة إلى الأضواء وسرقة الوطن من جديد.
يجلس نجوم الفضائيات هؤلاء القرفصاء أمام الميكروفونات ليبيعوا الشعارات ويحشوا كما يقول «نزار قبانى» أفواه الجماهير تبناً وقشاً.. يمدحون كالضفادع ويشتمون كالضفادع.. ويبايعون أسيادهم فى الصباح بالطبلة والربابة.. ويأكلونهم فى المساء.
إنهم مهرجون ومقاولون وتجار شنطة.. يستبدلون قناعاً بقناع.. ويتحولون فى فيمتو ثانية من تيار إلى تيار ومن مذهب إلى مذهب.. ومن موقف إلى عكسه.. ويغيرون الكرافتات من استوديو إلى آخر فى تلك الفضائيات المستباحة وهم يلتقون فى مقاهى المثقفين بين فقرات البرامج ليواصلوا نضالهم العظيم فى المساجلات الفكرية.. والتطاحن الجدلى «الهيجلى» والتنابز بالألفاظ.. وهم يعانون من تفاقم حالة البارانويا المرضية.. ويدعون خوضهم معارك وهمية وغزوات عنترية.. إنهم يرتجلون البطولة ارتجالاً زائفاً، لكنهم فى حقيقة الأمر مثل قشرة البطيخ، تافهون.