الأهرام
يوسف القعيد
لوعة الغياب فى منزل هيكل
هذه ثالث مرة أذهب لمكتب ومنزل الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد رحيله عن عالمنا، الذى يكمل عاماً فى السابع عشر من فبراير المقبل. رحل فى الحادية عشرة من صباح الأربعاء 17 فبراير الماضي. ويومها قلت لنفسى إنه فى رحلة، وأنه عندما يصعد سيكون أول سؤال يطرحه على من يقابله: إيه الأخبار؟ وهو السؤال الذى كان يبادرنى به كلما التقينا. وكنت ارتبك وأجيب، رغم إيمانى بأنه يعرف أكثر مما أعرفه بمراحل لا حدود لها.

ذهبت لزيارة السيدة الجليلة هدايت، كنا نقول عنها فى حياته هدايت تيمور. وأحب أن أقول عنها الآن هدايت هيكل. حيث رأيت ما أثار فى نفسى حالة من الشجن التى توشك أن تصل للرغبة فى البكاء.

من المؤلم للنفس والمحزن للروح أن تزور مكاناً ارتبط بإنسان لدرجة أنه أصبح مع الإنسان سواء بسواء فى غيابه. فى المرتين السابقتين نظرت لمكتبه المغلق. ولأننا كنا بالليل، فأقول لمكتبه المظلم وأنا لا أكاد أصدق غيابه. قلت لنفسي: لعله اختفاء عابر لسبب أو آخر. والمختفى لا بد أن يعود فى النهاية، مهما طال وقت اختفائه.

تعلمت من هيكل أن المجالس أمانات. لذلك أمضيت ساعة نتحدث فيما يمكن أن نقوم به حيال أوراقه وما تركه منها. وكان من عادة الأستاذ هيكل أن يحتفظ بالأوراق. فهو ينتمى إلى جيل عرف قيمة أى ورقة تمسها يده أو تقع عليها عيناه. ثم يحتفظ بها بعد ذلك. وقد أخذت عنه هذه العادة التى جعلتنى أعيش فى عالم من الأوراق. وإن كنت عن نفسى لا أدرى السبب فى الاحتفاظ بها. والدور الذى يمكن أن تقوم به. لكنى أحتفظ بها. هكذا فعل الأستاذ مع أوراقه. وهى كثيرة. فقد دخل المهنة فى أوائل أربعينيات القرن الماضي. واستمر فيها حتى رحيله عن الدنيا.

الأماكن التى عاش فيها الأستاذ كثيرة. القاهرة، برقاش، الإسكندرية، الساحل الشمالي، البحر الأحمر، فضلاً عن شقة فى لندن. وفى كل مكان ترك أوراقه وكتبه التى قرأها ودون ملاحظاته عليها. كانت قراءته قراءة إيجابية. لا يمر على الكلمات بنظره. لكنه يدون أولاً بأول ملاحظاته. وقد رأيت كتباً كثيرة قرأها وأعتبر تدويناته عليها لا تقل أهمية عما جاء بالكتاب.

رغم رحيله، فإن مؤسسة هيكل للصحافة العربية مستمرة فى العمل. والمؤسسة أسست 2006، وفى مارس 2007 بدأت عملها. واستضافت سيمون هيرش، وتواصل استضافاتها لكبار الصحفيين فى العالم. وتولت إرسال أكثر من 50 صحفياً للتدريب فى صحف العالم المتقدمة والكبري.

ذات مرة كنت ذاهباً إليه. وقد فاجأنى بتغيير لحظة وصولي، وهو الرجل الذى يمكن أن تصفه بالثبات. وأن عادته اليومية توشك أن تكون قوانين. قال لى يومها: لديَّ مشوار، هل نذهب معاً؟ رحبت على الفور دون أن أسأل عن طبيعة المشوار. ذهبنا إلى مؤسسته فى القرية الذكية. وحضرت محاضرة كان يلقيها صحفى عالمى على الطلاب الذين هم من الصحفيين المحترفين. وكانت عن تناول الصحافة المصرية لحادثين فى حياة نجيب محفوظ. حصوله على نوبل 1988 ورحيله عن الدنيا 2006. وكان معنا يومها هانى شكر الله، مدير المؤسسة. وجلس الأستاذ هيكل فى مقاعد الدارسين، وشارك بالغياب. لم يتحدث لأنه أعطى الفرصة للطلاب لكى يتكلموا ويتحدثوا مع صاحب المحاضرة.

مؤسسة هيكل ليست المشروع الوحيد الذى أقدمت عليه العائلة. فقد أسس الدكتور أحمد هيكل مؤسسة أخرى تقدم منحاً دراسية لمن يحصلون على موافقات جامعات أساسية كبرى فى العالم لعمل دراسات عليا فيها. بدأت المؤسسة عملها 2010، عمرها الآن ست سنوات. وهى توفد 20 طالباً كل عام لأرقى الجامعات العالمية الأمريكية والأوروبية. ويديرها والمسئول عنها الدكتور نبيل العربي، وزير خارجية مصر الأسبق، والأمين العام لجامعة الدول العربية السابق.

تقيم المؤسسة احتفالية سنوية بمبنى الجامعة الأمريكية. تعلن فيها أسماء من حصلوا على المنح وتحتفل بمن عادوا بمنحهم. وأذكر أنه عندما استضافت الإعلامية منى الشاذلى أحمد هيكل فى برنامجها، قدمت ضمن وقائع البرنامج عدداً من الذين تخرجوا فى الجامعة، وذكروا أسماء الجامعات التى درسوا فيها وقدموا شهادات إنسانية حية وصادقة لتجربتهم مع المؤسسة. ومن المعروف أن الدكتور أحمد هيكل متخرج فى أكبر جامعة فى العالم وهى جامعة استانفورد. وحصل منها على دكتوراه فى الهندسة الصناعية. وكانت ترافقه فى مرحلة الدراسة زوجته ورفيقة عمره مى العربي.

كتبت هذا الكلام لأننى أعرف أن الأستاذ هيكل كان يبتعد بمؤسسته عن الإعلام. ورغم أن من يدرسون بها من الإعلاميين ومن تخرجوا فيها من الصحفيين، إلا أن شرطه الأول والأخير عليهم أنه لا نشر عما يرونه ويعيشونه داخل المؤسسة. الدراسة أمر والنشر والإعلام أمر آخر. وهو نفس المبدأ الذى يأخذ أحمد هيكل نفسه به. حتى الاحتفال الذى يقام فى الجامعة الأمريكية بالمسافرين والعائدين يتم بعيداً عن الإعلام وفى تكتم شديد. ولا يعلن عنه قبل أن يتم.

فى مناسبة مرور سنة على رحيله يصدر خالد عبد الهادى صديقه وتلميذه المثقف العربى الذى يعيش فى الأردن كتابه عن هيكل. وعنوانه: معالم على طريق طويل. قال لى إن الذى اختار عنوان الكتاب هو الأستاذ هيكل نفسه. وهو يتكون من 77 ألف كلمة. ويبدو أن خالد عبد الهادى يتعامل بنجاح غير عادى مع منجزات التطور العلمي.

ما أكثر الكتب التى صدرت عن هيكل. سواء فى حياته أو بعد رحيله، أو الكتب التى يمكن أن تصدر عنه الآن ومستقبلاً. ولكن يبقى لكتاب خالد عبد الهادى بعداً لا يتوافر لأى كتاب آخر. ألا وهو محمد حسنين هيكل الذى لا يعرفه أحد. البعيد عن الدنيا. وأخص خصوصياته، وأدق شئون حياته. فالكتاب معزوفة إنسانية تدور حول هيكل الإنسان. والعطر الذى كان يستخدمه والمحال والمطاعم التى كان يتردد عليها فى اوروبا والألوان التى كان يعشقها، وأربطة العنق التى أحبها، والألعاب التى مارسها. وآخر كلمة نطق بها. وآخر فعل اوصى أن يتم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف