عبد الجليل الشرنوبى
التآمر على النهاية من البداية
كان فيمن كان قبلنا، كما يروي الأثر- رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال لا فقتله فكمل به مائة!
وكان واحداً من أبدع معلمي اللغة العربية تمكناً من مادته العلمية وآليات العرض والشرح، يجوب الفصل الدراسي بين طلابه شارحاً ومفصلاً وموضحاً، لكنه بعدما يفرغ كامل المعلومات في وعي طلابه يقول مع نهاية كل معلومة (فهمتوا حاجة؟) ثم يتبع جازماً (أبداً والله) وبعدها يجزم (والله ما انتو نافعين)!
وكان في ورشته «أسطى» لا مثيل له في إتقان صنعته، وتمتلئ الورشة بصغار الصبيان الذين أملوا أن يسيروا على درب صاحب الصنعة الأصيلة، يسعون إلى التقاط أسرار الحرفة وفنون الصنعة، ولكن معلمهم المحترف كان كلما سار بهم في درب من دروب التعلُّم ساقهم إلى واقع يقيمه بأنه (انتو صنايعية انتو؟)، ثم يضيف مؤكداً (دي أيام سودا كل من مسك فيها شاكوش فكر نفسه أسطى ابقو قابلوني لو حد فيكم فلح)!
جمعتني الأقدار في فترات قريبة بعدد من شباب الشِعْر، الذين تجاوزوا العشرين من أعمارهم بقليل، طاقات إبداعية جبارة، وقدرات على تجسيد المعاني بلغة عامية طازجة، ومحاولات للقفز على القوالب برشاقة وخفة، غير إن معاول النهش في بدن الأحلام الجديدة، الوليدة من أرحام الواقع، استطاعت أن تصل إلى إبداعهم فتدجنه لصالح مشروع سلب الأمل، حيث يرمينا إبداعهم إلى غياهب الوجع الذي يسلمنا عزفه من مقطوعة إلى ثانية. ويحيلنا هذا التدبر في المشهد إلى واقعنا السينمائي لنكتشف أن عدداً غير قليل من نهايات أفلام ما بعد ثورة يناير 2011 وحتى اليوم، يسير بنا إلى نهايات سوداء قاتمة، أو رمادية مشوشة، وربما حتى سعيدة لطرف على حساب آخر، تماماً كما حدث مع محمد هنيدي في فيلم (يوم مالوش لازمة)، حيث اكتشف الجمهور أنه (تزوج من كان يفر منها طيلة الأحداث، ووقع أسيراً لجبروتها) ويخرج الجمهور وآخر ما سمعوه صيحة غضب من الزوجة تردد (سوسو زعلانة)
هذه النهايات السينمائية يقابلها مثلها درامياً، ويعكسها أداء السياسيين والنخب إعلامياً، وتترجمها قريحة الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي، عبر موجات من تدوينات السخرية والرفض والاستنكار، وتتجلى في تعليقات الخلق على ما يدونه من آراء، حيث الكل له رأيه، والكل متطرف في انحيازاته، والكل قادر على كسر حواجز اللياقة واللباقة ليستحيل الفضاء الإلكتروني مكبات لقمامة الكلمات، ومجمعات لتصدير التطرف.
لقد تحول الواقع إلى سوق سلعتها الرائجة الإحباط، ولونها المعتمد الأسود، وخطابها الرسمي (مافيش فايدة)، وتجاوز أبطال واقعنا (اللمبي) المهمش الساقط من حسابات الجميع حكومات ونخب، إلى (عبده موتة) المهمش الذي قرر الانتقام لإسقاط أسلافه من الحسابات، بفرض نفسه نموذجاً لعصرنا الحالي ليسير الوطن في ركابه إلى عالم التهميش.
غزت واقعنا يا سادة جحافل من جيوش الفساد والإفساد، جميعها تقتات على أحلامنا، وكلها تضمن الحياة كلما وأدت الأمل في نفوسنا، وخططها لا تؤتي أكلها إلا كلما جف معين الأحلام في أرض عقولنا، ولذا صار (الخطاب الانتحاري) هو السلعة الرائجة والبضاعة التي لا تبور.
وتتضافر كل الجهود لتسويق هذا الخطاب الانتحاري، ليستوي في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي عشوائية التعاطي من قبلنا ومحددة الأهداف من قبل صانعيها وموجهي دفتها، ومعها وسائل الإعلام الرسمية التي تحاول اللحاق بقطار الإعلام الخاص متشحة بشعارات ريادة فرطت فيها، مع وسائل إعلام رجال الأعمال التي وجدت في الخطاب الإعلامي بضاعة تضمن أمان رءوس أموالها بتغييب جمهورها، مع وسائل إعلام التنظيم الإخواني الذي وضع في خطته الرسمية وسيلة لإسقاط الدولة هي (إشاعة اليأس والإحباط لدى المواطنين)، مع حتى وسائل إعلام غربية وصهيونية تجد في ترسيخ خطاب مجتمعنا اليائس معول هدم فاعل وواحدا من أهم أدوات (الفوضى الخلاقة) سعياً لفرض خريطة (الشرق الأوسط الجديد).
لقد باتت النهايات القاتمة تحيط بالوعي، وكأن تآمراً يتم على الأحلام، حتى لا تنهض الأوطان، وهو الأمر الذي يدفع لتساؤل يمكن اعتباره واحداً من تساؤلات المصير في ظلمة الدرب الوطني العسير، وهو (لماذا اختفت النهايات السعيدة من واقع إبداعنا على جميع المستويات بداية من المدارس وصولاً إلى الخطابات الرسمية للدولة؟)، إنه التساؤل الذي يفرضه علينا الإنقاذ الوطنى، سعياً للوصول إلى حل عاجل، تتضافر فيه جهود الرسمي مع المؤيد والمعارض وتترجمه أفعال المبدعين عبر فتح أبواب إبداعهم على صورة الواقع بوجعه، غير إنها لا تغلقه قبل أن تفتح لنا ثقباً في جدار الوجع القاتم ينفذ من نور الأمل في غد يقبل توبة العصاة إن صحت تماما، كما فعل العالم الذي توجه إليه قاتل المائة نفس ليسأله (هل له من توبة)، فأجابه (نعم ومن يحول بينك وبين التوبة).