الأخبار
عبد الحليم قنديل
نهاية وبداية
ربما لا يكون من شك في النهاية القريبة لطبعة »داعش»‬ العراقية، لكن نهاية »‬داعش»، لا تعني نهاية الداعشية، فقد أثرت فترة صعود داعش بشدة في تكوين الحركات المسماة بالإسلامية، وسرت حالة »‬دعشنة» هائلة في قواعدها، وحلت صورة »‬الخليفة» أبو بكر البغدادي كمثال أكثر إلهاما من قادة الحركات الأخري، صحيح أنه قد يقتل غالبا، وقد يلقي مصير أسامة بن لادن، حيث لا جثة تبقي ولا قبر منظور، لكن إلهام البغدادي من نوع مختلف، فهو ليس شيخا ولا شبه شيخ، ولا فقيها له جمهور ومريدون، ولا هو مليونير أو ملياردير متدين علي طريقة بن لادن، بل مجرد شاب عادي متدين، انضم إلي حركة »‬الإخوان المسلمين» لبعض الوقت بشهادة الشيخ يوسف القرضاوي، ثم غادرها إلي قاعدة »‬الزرقاوي» بعد تجربة سجن قصيرة نسبيا، وإلي أن خلف »‬أبو عمر البغدادي» في قيادة ما أسمي »‬الدولة الإسلامية» في العراق، وحتي اكتملت القصة التي صارت محفوظة من فرط تكرارها، وقامت دولة الخلافة ـ إياها ـ عابرة ومحطمة للحدود بين العراق وسوريا، وكانت تلك هي نقطة التميز التي احتسبت له في صفوف الشباب »‬الإسلامي»، فقد جعل من حكم الخلافة حقيقة، ولو لبعض الوقت، وأقام نظاما إداريا يداعب خيال المولعين بالعودة إلي عصور مضت، وباستخدام كثيف متقن لتكنولوجيا العصر الحاضر، وجعل تقاليد قطع الرءوس وحرق الناس وسبي النساء أكثر جاذبية وحرفية من أفلام هوليوود، وفي تلبية مثيرة لغرائز الشباب وتدلي لحاهم في الوقت نفسه، وهكذا صنعت أسطورة البغدادي، الذي نجهل عنه أكثر مما نعلم، وربما أضاف غموض شخصه إثارة إلي المشهد كله، يصعب أن تتفكك آثارها سريعا بزوال دولة »‬داعش»، فشخصية البغدادي مغرية بالتكرار والتناسل، وبوسع أي شاب »‬إسلامي» أن يكون كالبغدادي، والأعداد المتطلعة للدور كبيرة جدا، أولها ـ بالطبع ـ قوافل الداعشيين بالانتظام أو بالمراسلة، وكل جماعات تنظيم »‬القاعدة» التي تسعي لوراثة خلافة »‬داعش»، وكل جماعات التكفير السلفي الجهادي كذلك، إضافة لقواعد أوسع نطاقا بكثير في جماعات الإخوان، خاصة أن القيادات الراهنة للإخوان في حالة بلبلة وحيرة، وكثير منها ينحو إلي فك الصلة بقضية استعادة الخلافة، والتكيف مع بيئات وطنية محلية، وإشهار الانفصال عن التنظيم الدولي، كما جري في الأردن واليمن، أو التحول إلي أحزاب ليبرالية بلحي مهذبة، كما جري في المغرب وتونس، وكلما تقدمت جماعات إخوانية علي طريق »‬اللبرلة» والتكيف المحلي، زاد ميل قواعدها وجمهورها لهجرها والانفصال عنها، وزاد بأس جماعات التكفير »‬الداعشي»، حتي مع توافر بيئات ديمقراطية وحريات سياسية، وبالضبط كما جري ويجري في تونس المتفوقة ديمقراطيا، فقد تحولت تونس الصغيرة نسبيا إلي أكبر دولة مصدرة للمقاتلين »‬الداعشيين» علي الإطلاق، في الوقت نفسه الذي جرت فيه تحولات قيادة حركة »‬النهضة»، وإعلان هجرتها من دار الإسلام السياسي بالجملة، وتحولها ـ كما قالت القيادة ـ إلي ديار »‬الديمقراطية المسلمة» بأولوية تونسية نهائية ومطلقة.
ولا يعني ذلك أن الديمقراطية ليست مطلوبة، فهي مطلوبة لذاتها، لكنها ـ أي الديمقراطية ـ ليست ترياقا ولا شرطا حصريا لهزيمة الإرهاب الداعشي أو غيره، تماما كما أن استيعاب الاعتدال »‬الإسلامي» لا يضيق المجال بالضرورة علي التشدد والتطرف والغلو، فهذه كلها معادلات موهومة افترضتها مراكز الدراسات والأبحاث الغربية طويلا، وثبت بؤسها في الواقع الملموس، فالقضية أعمق من ذلك بكثير في التربة الاجتماعية والفكرية، ودور الإسلام في نهوضنا من الانحطاط التاريخي بحاجة إلي إعادة تعريف، فلا يمكن نفي الإسلام علي الطريقة العلمانية الأرثوذكسية، ولا يصح تحنيط الإسلام علي الطريقة الدينية المفرطة، والمطلوب شئ آخر، هو أن نعي حدود الفصل والوصل بدقة، فالإسلام دين ودنيا، لكن معني الدولة أكبر وأعقد من حصره في صيغ تاريخية مضت وانتهت، فدولة الخلافة ليست نصا دينيا ملزما، وإنما كانت شأنا دنيويا له ظروفه التاريخية، وآخر نماذجها عندنا ـ الخلافة العثمانية ـ انتهت إلي بؤس عظيم وعقيم، وأدي تخلفها الأخير إلي كبح التطور الاجتماعي والتحديثي لمجتمعات وأمم وشعوب العالم الإسلامي، وتركنا فريسة سهلة ميسرة لزحف قوافل النهوض والاستعمار الغربي، وأطفأ أنوار الإسلام الداعية للعلم والمعرفة وكرامة العقل الإنساني، وهذا هو جوهر محنتنا، فتأخر التحديث والتصنيع، والانقلاب علي تجاربه، جعل مجتمعاتنا غاية في التشوه، وجعلنا عالة علي الآخرين، نستهلك ما صنعوا مع عجزنا عن مجاراتهم، ونكاد نسلم بدونيتنا واحتياجنا إلي حمايتهم، وهو ما يولد ردود فعل محبطة ساخطة، ومناقشات دينية أقرب إلي التطفل علي آخرين من نوع مختلف، تترك نهر الإسلام الصافي في قرآنه وسنته المحكمة، وتشرب من ترع ومستنقعات تراث وتفاسير الأقدمين، وتصور أعمال وخطايا الخلفاء غير الراشدين كأنها من أوامر الله، وتستعيد معارك داحس والغبراء، وصراعات السنة والشيعة، كأنها أصول الدين والفروض والطاعات، وكلها من مآسي التأخر العلمي والصناعي، والإلهاء عن واجب الوقت بمعارك طواحين الهواء الدوارة، واصطناع قداسة وثنية لعلماء ومشايخ ليست من الإسلام، فليس في الإسلام سلطة دينية لأحد، والسلطة عمل مدني خالص من صنع الناس، والمجتمعات لا تتقدم بغير التحديث والتصنيع الشامل وأولوية العلم، فالتصنيع هو الذي يخلق طبقة وسطي وطبقات عاملة منتجة حافظة ومطورة لحيوية المجتمع وموازين قيمه، وهو الذي يجعل للديمقراطية قيمة في طلب الكرامة والمساواة، والتوزيع العادل للسلطة والثروة، والتصنيع مع العدالة الاجتماعية هو وحده الذي يضيق المجال علي الإرهاب الداعشي وغيره، ودون إخلال بما هو ضروري لحفظ قوام الدولة الوطنية، وامتلاك جيوش تجنيد وطني بقوة كافية لردع مخاطر التفكيك، فالإرهاب ابن الخراب، ويزدهر حيث تغيب قوة الدولة الحديثة المنتجة العادلة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف