كان أهم ما شغلنا فى مؤتمر الأردن هو سؤال النهضة: لماذا تصعد؟ ولماذا تسقط؟ ولا يزال رأيى أننا نعانى من ارتباك واضح فى تحديد معنى النهضة من ناحية، ومجالها الزمنى من ناحية موازية، وأسباب صعودها أو هبوطها من ناحية ثالثة.
أذكر أن أساتذتى فى قسم اللغة العربية كانوا يتحدثون فى محاضراتهم عن عصر الانحطاط، مطلقين هذه التسمية على التاريخ العربى، ابتداء من سقوط بغداد سنة 1258م وانتهاء بمجىء الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، وكانوا يرون فى مقدم الحملة الفرنسية صدمة أحدثت تغيرا كبيرا فى الوعى المصرى، فأيقظته من سبات تخلفه وطرحت عليه تحديا كبيرا، كان عليه أن يواجهه إذا أراد أن يستمر فى الوجود والتقدم. وقد رأى الكثيرون أن هذا التقدم لن يكون إلا بالعودة إلى الماضى العربى القديم فى عصور ازدهارها، ولذلك أطلقوا على هذا الزمن “عصر الإحياء” أو “عصر البعث”، ذلك لأن النهضة -فى الشعر على سبيل المثال- قد قامت على بعث التيارات الشعرية القديمة لأمثال أبى تمام والمتنبى وأبى العلاء المعرى وغيرهم من كبار الشعراء العرب، وإحياء شعرهم عن طريق اتباع أساليبه وصوره..إلخ. ولذلك كنا نسمى مرحلة الشعر العربى، من بداية الحملة الفرنسية إلى بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914، باسم مرحلة “الإحياء” أو “البعث”. ولكن تيارا آخر من أساتذتنا كان يرى رأيا آخر مخالفا، وهو رأى يؤكد أن هذا لم يكن معنى النهضة؛ فالنهضة لم تقم على إحياء الماضى الزاهر فحسب، وإنما الإضافة إلى هذا الإحياء بما هو مأخوذ من الآخر الأوربى من آداب لم تكن موجودة– أو معترفا بها على الأقل- فى التراث القديم، وكانت التسمية الأقرب إلى الازدهار عند أصحاب هذا الاتجاه فى هذا الوقت هى تسمية النهضة التى تشمل كتابة الشعر وظهور المسرحية وفن القصة وفنون المقال الصحفى بأنواعه المختلفة وما يشبه ذلك. وعلى هذا الأساس كان أصحاب هذا التيار يطلقون كلمة “النهضة” على المرحلة الزمنية التى تبدأ من 1798 إلى 1914م. وفى الحقيقة إننى كنت مذبذبا بين التيارين إلى أن حسمت أمرى، وأخذت أميل إلى تسمية هذه المرحلة بعصر النهضة بوصفها التسمية الأدق، والتى كانت تعبيرا عن واقع تاريخى مغاير بالفعل. فقد أدرك المصريون– على سبيل المثال- أنه لا سبيل أمامهم لمواجهة الحملة الفرنسية وأمثالها إلا بأن يتقدموا ويحصلوا من العلوم وأدوات التحضر والقوة ما يتيح لهم أن يكونوا أندادا للمستعمرين الذين لم يتوقفوا على جنود الحملة الفرنسية. وكان هذا يعنى الانقطاع عن الماضى المتخلف وتبنى الاتجاهات الجديدة وتقبل الفنون وأدوات العصر الجديدة فى آن. وحتى فى الشعر القديم لم يرجع محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وحافظ إبراهيم وأمثالهم إلى عصور الانحطاط، وإنما استبدلوا بها عصور الازدهار، فكأنهم انقطعوا عن قديم ميت واستبدلوا به قديما متوثبا بالحياة، قابلا للامتداد، وهو الأمر نفسه الذى حدث فى مجالات موازية منها تقبل فكرة البرلمانات الحديثة بوصفها نوعا من الشورى التى تحدث عنها الإسلام. وكان هذا الانقطاع عن بعض الماضى واستبدال غيره به، هو المبدأ الحاسم الذى دعا أبناء هذا العصر إلى استقبال فن القصة الأوربية واستخدامها سلاحا للاستنارة، كما ناقشت ذلك تفصيليا فى كتابى “عن الرواية والاستنارة”، وهو الأمر نفسه الذى حدث مع فن المسرح وغيره من الفنون التى ارتبطت بظهور فن الطباعة وازدهار الصحافة العربية بوجه عام. وعلى هذا الأساس شهد العرب المحدثون، أبناء المدن الحديثة وأبناء الطبقة الوسطى تحديدا التى ارتبطت بظهور هذه المدن الحديثة، اختلاف قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج بها. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون مستقبلو فن الرواية الحديثة، وقراء القصة فى الجرائد، أو مشاهدو المسرح من أبناء الطبقة الوسطى الوليدة التى برزت بقوة فى عصر إسماعيل باشا الذى أراد أن يجعل من مصر قطعة من أوربا، ومن القاهرة نسخة أخرى من باريس.
وهكذا يمكن أن نتحدث عن حدود زمنية لعصر النهضة تقوم على الانقطاع عن عالم متخلف قديم وبدء عالم جديد. وكان ذلك تحديدا مع سنة 1798 مع مجىء الحملة الفرنسية التى أحدثت، كما قلت، صدمة ودافعا فى نفوس المصريين دفعتهم إلى النهضة، وهو الأمر نفسه الذى يمكن أن نقوله على غير ذلك من الأقطار العربية، رغم وجود بعض المخالفين لهذا الرأى الذى أذهب إليه. المهم أن حد البداية فى (مصر) هو سنة 1798 الذى ظل متواصلا إلى سنة 1914، وفى هذه الأثناء تحول الاستعمار من حملة فرنسية إلى حملة إنجليزية، وأصبحت مصر مستعمرة بريطانية بعد أن كانت مستعمرة فرنسية. لكن هذه الحدود الزمنية التى أتحدث عنها ليست هى وحدها العنصر الحاسم، وإنما تشترك مع عنصرين حاسمين آخرين، أولهما العنصر الاجتماعى، وهو المرتبط بصعود الطبقة الوسطى المقترنة بالمدينة والمتشكلة بتشكيلاتها حتى على المستوى الإبداعى، فالمؤكد أن أبناء هذه الطبقة هم الذين احتلوا مواقع أبناء الأرستقراطية التركية القديمة وورثوا نفوذها. هكذا نتحدث عن أحمد عرابى أفندى بدل القادة الأتراك والشركس الذين كانوا جنود محمد على، وهو تحول تسجله رواية “حديث عيسى بن هشام” على مستويات متعددة، ويوازيه تحول فى صعود كتاب الرواية الذين ينتسبون إلى الطبقة الوسطى، من أمثال: على مبارك وفرنسيس فتح الله المراش وخليل خورى وفرح أنطون وغيرهم من الذين شغلوا موضع كتاب الشعر، من أمثال: محمود سامى البارودى باشا أو أحمد بك شوقى شاعر الخديوى عباس أو حفنى بك ناصف محافظ الإسكندرية أو عائشة هانم التيمورية... إلخ.
هذا البعد الاجتماعى يوازيه بعد فنى يرتبط بحراك الأنواع الأدبية وتغير طبيعة المتلقين لها. وأعنى بهذا البعد ظهور الكاتب الذى يعتمد فى أكل عيشه على ما يأتيه من الصحافة التى أصبحت قوة أساسية فى المجتمع ومُشكّلة لتوجهات الرأى العام، ومن بيع كتبه لناشرين متعددين وطباعتها على مستوى الجمهور الممتد من القاهرة إلى الشام، ومن الشام إلى العراق، ومنه إلى تونس والجزائر والمغرب. هذا البعد الخاص بظهور نوعية جديدة من الكتاب وشرائح جديدة من المتلقين يشتركون مع الكُتاب فى الانتساب إلى الطبقة الوسطى، ظل فى حالة صعود طوال عصر إسماعيل الذى كان عصر الظهور الأول للطبقة الوسطى، وهو ظهور واكبه صعود لم يقض عليه الاحتلال البريطانى الذى دخل مصر سنة 1882، والذى كان دخوله بمثابة تأجيج لمشاعر أبناء الطبقة الوسطى الحريصة على تأكيد مفاهيم الاستقلال الوطنى من ناحية، ودعم وتأكيد معنى الدولة الوطنية من ناحية موازية، وهو الأمر الذى قام به أمثال أحمد لطفى السيد وقاسم أمين ومصطفى كامل الذى عُرف بنثرياته الخطابية التى تتغنى بالوطن الباحث عن حضوره التاريخى. ولذلك يمكن أن نقول إنه لم تأت سنة 1914، وهى سنة الحرب العالمية الأولى، إلا وكان الحديث عن الوطن والوطنية حديثا مألوفا، وإن كانت الكتابة الجديدة التى اقترنت بما نسميه عصر النهضة هى الكتابة نفسها التى أسست للهوية الوطنية فى كل قطر عربى، والمرتبطة بمعانى الاستقلال عن الاستعمار، وهو الأمر الذى أخذ يصعد على نحو ظاهر مع تولد مرحلة جديدة من مراحل النهضة على خط صعودها الواعد، وهى المرحلة الليبرالية أو المرحلة التى يسميها “ألبرت حورانى” العصر الذهبى والتى تمتد ابتداء من الحرب العالمية الأولى إلى أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه التسمية من ألبرت حورانى راجعة إلى أن الفكر الليبرالى والفكر الذى ساد هذه المرحلة هو الفكر الذى سمح بوجود غيره من التيارات الفكرية بما فى ذلك التيارات المعادية له، مثل التيار الماركسى أو التيار الدينى المتمثل فى الإخوان، وكلا التيارين بدأت بذورهما فى الظهور منذ أواخر العشرينيات.
ويمكن أن نقول إن النهضة بهذا المعنى ظلت مستمرة ومتواصلة يغذيها صعود الفكر الليبرالى من ناحية، ممثلا فى أعظم كتاب العصر الذين نعد من بينهم عباس محمود العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل وسعد زغلول وغيرهم من رجال الفكر والسياسة والاجتماع والعلوم التى يمكن أن نعد على مصطفى مشرفة باشا أهم ممثل لها إلى عام وفاته سنة 1950. ومن المؤكد أن المفاهيم والتصورات الأساسية للمرحلة الليبرالية كانت بمثابة العصر الذهبى للحياة المصرية بكل معانيها السياسية المرتبطة بالديموقراطية والحرية الدينية، من حيث نظرة المجتمع الذى يغلب عليه الفكر المدنى إلى رجال الدين، ومن ثم البحث عن تيار عقلانى كان رائدة وممثلة الإمام محمد عبده، وقد استمر هذا التيار حتى بعد وفاة محمد عبده فى سنة 1905، ممثلا فى تلامذته من أمثال على عبد الرازق الذى واجه استبداد الملك فؤاد بكتابه “الإسلام وأصول الحكم” سنة 1925، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وطه حسين الذى أقام الحياة الثقافية والفكرية ولم يقعدها بصدور كتابه “فى الشعر الجاهلى” سنة 1926، وهو الكتاب الذى يعد النموذج الأرقى لما وصله الفكر الليبرالى المرتبط بمعنى الدولة المدنية التى تحترم حرية الفكر والإبداع وتمنحها من الحماية ما يصونها وما يدفعها إلى الازدهار. وليس أدل على ذلك من وجود المذكرة الضافية التى نشرها المرحوم خيرى شلبى بعنوان: “محاكمة طه حسين”، وفيها نص التحقيق الذى قام به محمد نور رئيس نيابة مصر مع طه حسين المتهم بالكفر والإلحاد. وهو التحقيق الذى انتهى بالحفظ والذى دفع محمد نور إلى أن يؤكد أن ما ذهب إليه طه حسين كان على سبيل الاجتهاد فى العلم، والاجتهاد فى العلم مقبول فى الدائرة الفكرية التى كان ينتمى إليها محمد نور وزمنه الذى لم يكن يعرف قانونا معيبا ومريبا اسمه “ازدراء الأديان”. رحم الله أهل ذلك الزمن الذين علمونا ما أضعناه، ولم نحفظه لأولادنا وأحفادنا من بعدنا.