هناك فجوة فكرية لا يمكن تجاهلها بين الدولة من جانب وقطاع من المثقفين والإعلاميين والساسة المدنيين من جانب آخر..
سوف نترك جانبا الآن ما هو معروف أنه بين هؤلاء جميعا فى ناحية وجماعة الإخوان والإرهاب من ناحية أخرى تناقض وجودى معلن بالكلمة والسلاح. وللعلم فإن عبور الفجوة لا يعنى بالضرورة القبول والتراضى الشكلى على أرضية الوطنية المصرية؛ وإنما هو للتأكد أن اللغة المستخدمة واحدة، وأن المعلومات متوافرة للجميع وتحمل نفس التفسيرات. بعد ذلك فإن الخلاف لن يفسد للود قضية، ومن المرجح أن أرضية مشتركة يمكنها أن تنمو عبر حوارات بناءة. وفى الأسبوع الماضى بدأت المغامرة لفهم غير المفهوم فى منهج إدارة الدولة للبلاد وتم التوصل إلى عدة حقائق: الأولى أن هناك جهدا مكثفا «لتحريك» الإقتصاد عبر مشروعات كبيرة للبنية الأساسية كما تفعل الدول بعد حالات الركود أو الثورات أو الحروب. والثانية أن المشروعات كلها تتجه نحو إعادة تربيط مصر بين النهر والبحر، والدلتا وسيناء، والصعيد والبحر الأحمر؛ وباختصار وصل المسافات فى دولة مساحتها مليون كيلومتر مربع. والثالثة تصحيح الخلل الذى جرى فى الصراع على روح مصر وعقلها بين البحر الأحمر والبحر الأبيض بحيث يعود البعد المتوسطى من خلال مشروع تنمية شرق البحر المتوسط نفطا وغازا وما هو أكثر.
الحقيقة الرابعة أن منهج إدارة السياسة الخارجية، والأمن القومى المصرى، هو أن «الدولة» هى أساس الإقليم كما هى أساس العالم كما أنها أصل كل الأمور فى مصر. ومن هذه الزاوية يكون النظر إلى الأزمات السورية والليبية واليمنية والعراقية والصومالية والسودانية، وغيرها من أزمات جرى نسيانها أو أنها فى دور التكوين. النظرة هكذا تستند إلى تاريخ طويل وعريق للدولة المصرية ذات السلطة المركزية سواء كانوا حكاما مصريين أو أجانب حيث حفظ كلاهما تكوين الدولة وحافظ عليها من الانفراط والتقسيم. كما تستند إلى تجربة معاصرة بدأت مع التسعينيات من القرن الماضى حينما بدأت الدول فى الإنهيار والتقسيم واحدة بعد الأخرى. هنا فإن المنهج المصرى ليس فقط الدفاع عن مصر، وإنما هو الدفاع عن الإقليم كله، ضد التقسيم ومن بعده الحروب الأهلية بكل ما يصاحبها من تطرف وعنف. مصر الدولة هنا لا تسلم بأن المعركة انتهت، وأن الأقدار باتت حتمية، وأن القضاء نافذ، وبات مكتوبا على الإقليم العربى أن يتحول إلى طوائف وقبائل، وسنة وشيعة، وعرب وأكراد. المعركة على العكس لا تزال مستمرة، وبدايتها كانت الوقفة المصرية فى 30 يونيو 2013، ومن بعدها فإن إعادة بناء الدولة فى مصر هى قاعدة الانطلاق الأساسية. المهم فى الأمر كله أنه خلال عملية إعادة البناء لا ينبغى التسليم أو القبول بمصير إقليمى قائم على التقسيم والتفتيت.
الحقيقة الخامسة أن الظروف التى عاشتها مصر خلال تاريخها المعاصر قد أضعفت الدولة فيها، سواء كان ذلك بسبب هزيمة يونيو 1967، أو الجمود الذى اعترى المؤسسات، أو الضعف الاقتصادى المزمن الذى جعل المصريون يرحلون للعمل فى الخارج، أو جعل مصر مطلبا مستمرا للمعونات والمساعدات والقروض. صارت مصر كما قيل »شبه دولة« لأن عمودها السكانى الفقرى بات ضعيفا، ومؤسساتها متهالكة، واقتصادها مختلا؛ وعندما جاءتها الثورات لم تبث فيها من الطاقات الإيجابية ما بثته من طاقات سلبية تعرف الكثير عما ترفضه، ولكنها لا تعرف إلا القليل عما تطالب به. المحصلة النهائية لكل ما سبق باتت الحاجة إلى الكثير من البناء من أول البنية الأساسية وحتى المؤسسات.
الحقيقة السادسة أن ما نعيشه الآن يظل «مرحلة انتقالية» بكل ما تعرفه المراحل الانتقالية من قلق وشك وقلاقل. فهى انتقالية لأن معركة الإرهاب، كما هو ثابت من كل التجارب العالمية ليست من تلك المعارك التى تحسم فيها الحروب فى معركة واحدة، وإنما هى فوق كونها تنقسم إلى معارك كثيرة متفرقة، فإنها معركة على القلوب والعقول. وهى انتقالية لأن فارقا زمنيا مفروضا بين بناء قاعدة البنية الأساسية واستثمارها الاقتصادى بما يترتب عليه من عوائد بشرية ومادية. هناك باختصار «عنق زجاجة» لا يمكن الهروب منه ولا تجاوزه، وهى مرحلة طبيعية عرفتها أمم كثيرة عندما كان عليها أن تخرج من حروب عالمية، أو حتى حروب باردة طالت لعقود، أو نتيجة ثورات أطاحت بعالم وظلت تحاول بناء عالم آخر جديد، وربما واعد. مصر هنا ليست استثناء من طبيعة المرحلة، ولكن ما لديها من فارق هو أنها تعرف ما تريد، وأن البداية فيه هو التحول من شبه الدولة إلى الدولة نفسها. وهى أخيرا انتقالية لأنها حالة لا يتم تقديرها بنفس القدر من الثبات ووضوح الرؤية بين كل الجماعات السياسية فى البلاد، ومن ثم فإن هناك درجات مختلفة من استعجال العائد، والتضارب فى الأولويات التى قد تسبب احتكاكات وأزمات وتوترات مقصودة أو غير مقصودة.
هل تضع الحقائق الست أعلاه محاورا لفهم ما يجرى فى الدولة المصرية حاليا؟ والإجابة هى لا، ليس فقط لأن هناك حقائق أخرى، وإنما لأن هذه الحقائق تحتاج لوضوحها نظرة خارجية عليها تستخلص ما يشكل أرضية مشتركة مع قوى سياسية أخرى فى البلاد، وما يجعلها فى النهاية أكثر فعالية وقدرة، وربما يزيد عليها ما يوضح العلامات الفارقة بينها وآخرين لهم نظرة أخرى للبلاد ومستقبلها.. والحديث متصل من أجل فهم غير المفهوم؟!.