المصريون
جمال سلطان
حديث الثلاجة الفارغة ودلالاته السياسية
الحديث الوحيد الذي علق بأذهان متابعي مؤتمر الشباب في شرم الشيخ طوال اليوم كان "قصة الثلاجة الفاضية" التي تحدث عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي ، عندما أقسم على أنه كان في بيته الثلاجة فاضية وليس فيها سوى الماء لمدة عشر سنوات ، ومع ذلك لم يشتك أو يتكلم ، مضيفا أن عزة النفس شيء ليس سهلا ، وهو كلام بالغ الغرابة من شخصية يفترض أنها سياسية وترأس "دولة" ، لأن حقوق الشعب في توفير متطلباته هي جزء من الكرامة المستحقة للمواطن ومطالبته بحقوقه جزء من كرامته وليس العكس ، وانتهاك الدولة لتلك الحقوق أو تقصيرها فيها هو الذي يستوجب العار وانعدام الكرامة إذا لم يستقل المسئول الفاشل ، أنا لا أمد يدي لجاري أتسول منه مثلا ، وإنما أطالب بحقوقي تجاه الدولة والسلطة المسئولة دستوريا عن توفير تلك الحقوق وإلا ترحل أو تستقيل ، وكما أن الرئيس أو الوزير هو شخصيا وأسرته ينعمون بخير البلد فمن حق كل مواطن أن ينعم بنفس الخير ، والحقيقة أن هذا الكلام هو دليل جديد على اختلاط الأمور على رئيس الجمهورية تجاه فكرة الدولة والشعب والحقوق ، لقد بدأ السيسي عهده بالتضييق على الحريات والحقوق السياسية وتهميش الديمقراطية وكان يدافع عن ذلك أو يقلل من قيمته في حديثه لزواره الأجانب موضحا لهم أن "الحقوق الاقتصادية والمعيشية" هي الأهم في حقوق الإنسان ، والناس تبحث عن ذلك وليس عن الحقوق السياسية أو الديمقراطية ، الآن تراجع حتى عن هذه الحقوق الاقتصادية والمعيشية ، وأصبح يطالب الناس بأن تنساها أو تزهد فيها بل ويصف المطالبة بها بأنها عيب ولا تتفق مع الكرامة ولا عزة نفس المواطن ، أي أنه ـ الآن ، وبعد ثلاث سنوات من حكمه ـ لا يصح أن يطالبه الناس لا بديمقراطية ولا رغيف خبز ولا كيس سكر ولا حبة دواء ، هذا مستوى من الخطاب السياسي لم تعرفه البشرية كلها من قبل بتلك الصورة . حديث الثلاجة تحول ـ بطبيعة الحال ـ إلى مادة للتندر والاستغراب بين الناس ، لأنه كلام غريب جدا ويصعب تصديقه لدى الإنسان البسيط ، لأن "بواب" العقار الذي كان يسكنه السيسي وهو ضابط كانت لديه بالتأكيد ثلاجة ولم تكن تخلو من طعام وشراب ، وأنا هنا لا أكذب السيسي ولكن ربما أنه كان يقصد ثلاجة بيته في القاهرة في الفترات التي قضاها خارج مصر في بعثات أو عمل بملحقيات أو ما شابه ذلك ، ولكن الأهم من غرابة القصة وصدقيتها هو دلالتها على تصور رئيس الجمهورية لفكرة الحقوق الدستورية للمواطنين ، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو غيرها ، فالمواطن تقريبا بلا حقوق ، والأمور حسب التساهيل وحسب تقديرات الرئيس ، والرئيس عندما يعجز أو يفشل في تحقيق متطلبات الشعب وحقوقه لا يتوجب عليه أن يستقيل أو يرحل ، وإنما على الشعب أن يلتزم الصمت ولا يتورط في "العيب" بانتقاد الرئيس أو يطالبه بحقوق وبالتالي يقلل من كرامته كمواطن ويهدرها ، بيده أو بيد السلطة . نحن الآن بإزاء دولة غير جادة ، تهتم بالمظاهر الاحتفالية على حساب العمل والتخطيط والإنجاز والتأسيس الصحيح ، لقد تحول مؤتمر الشباب في شرم الشيخ إلى "مكلمة" يطرح فيها الكثير من الهراء المهين للعقل ، من مثل الحديث عن ظهور أرواح "الأولياء الصالحين" في الميادين لتحفيز المتظاهرين ضد الإخوان والرئيس مرسي ، أو الحديث عن أن قوانين التظاهر في مصر أكثر ديمقراطية منها في أمريكا وأوربا ، وسوف ينفض هذا المؤتمر بعد يوم أو اثنين وينسى بالكامل حتى ممن شاركوا فيه ، وبكل ما قيل فيه وما وعدوا به فيه ، صفحة وطويت ، لأن المهم كانت "الصورة" التي يتم التقاطها والهيصة ، لتسويقها ، ومحاولة اصطناع شعبية تليفزيونية بعد أن كثر الكلام عن تراجع شعبية النظام واتساع رقعة الغضب الشعبي من سياساته ، إنه الولع بتزييف الواقع من خلال "الواقع الافتراضي البديل" والذي تحققه "الصورة" ، وهو نفس المنطق الذي يجعلهم يصورون رئيس الوزراء ووزير الداخلية وهما يتم تفتيشهما أثناء دخولهما إلى المطار خشية أن يكون معهما ممنوعات أو متفجرات !! ، لاصطناع رسالة مزيفة بأن الكل أمام النظام والقانون سواء ، وأن البلد تعرف الضبط والربط ، من الكبير والصغير ، رغم أن الوقائع على الأرض تتناقض تماما مع الصورة ، وكلنا نعرف ذلك ، ولكن النظام الذي عجز عن إدارة الواقع وتحسينه والإنجاز الحقيقي فيه ، يرى أن "الأسهل" والأرخص والأقل كلفة هو التقاط "الصورة" الدعائية وتسويقها ، ما زال مصرا على أن "الصورة" هي الأهم والمشكلة أنه هو نفسه مع الوقت يصدقها باعتبارها هي الحقيقة ، لذلك يبقى الواقع البائس يزداد بؤسا ويمضي بالوطن بعيدا في النفق المظلم ، بينما القيادة تغرق أكثر في أوهام "الصورة" .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف