يسرى الجندى
خاطرة .. هل نسترد ما ضاع منا؟ »٣«
لم يكن صعود الإرادة الشعبية خلال حرب أكتوبر وما قبلها فقط.. أي لم يكن هذا التجلي منقطع الصلة بالتاريخ المصري الممتد عبر قرون. وإذا توقفنا عند العصر الحديث سنرصد أكثر من تجل للإرادة الشعبية المصرية وإختبار لها أيضاً ودروس.
- فحين هب الشعب المصري - يقوده عدد من علماء الأزهر المستنيرين - مطالبين الباب العالي في الاستانة بعزل واليها (خورشيد باشا) وإرغامه علي تنصيب (محمد علي) الذي كان علي رأس الفرقة الألبانية في مصر ليكون والياً بديلاً عن خورشيد ومن هنا تبدأ النهضة المصرية الحديثة - بخلاف تأثير الحملة الفرنسية - التي تجعل من مصر قوة كبيرة يمتد تأثيرها علي الجميع حتي أنها صارت تشكل خطراً فعلياً علي الإمبراطوريةالعثمانية، مما أثار قلق الدول الكبري وقتها ونجحت فيهزيمة محمد علي وإخضاعه لشروطها. والأمر علي هذا النحو كان اختباراً لكليهما.. محمد علي..والإرادة الشعبية.
- فرغم أن الشعب فرض إرادته فيخلع خورشيد وتولية محمد علي.. إلا أن محمد علي سرعان ما نحي هذا الشعب جانباً إلا فيما يتعلق باستخدامه في تحقيق أهدافه واستطاع التخلص من القيادات الشعبية مثلما تخلص من المماليك - مع الفارق طبعاً بين الطائفتين - ومع النهاية المأساوية لمحمدعلي ومشروعه تأكد معني الإرادة الشعبية وأهمية دورها وأهمية الوعي بذلك. فانكسار محمد علي كان من الممكن أن يختلف لإختلاف موقفه من الثورة الشعبية التي مكنته من السلطة، فالقوي الشعبية بثقلها الحقيقي في المشاركة، يمكنه أن تغير من نتائج الصراع بمساندة حقيقية منهم.. وربما أدرك محمد علي ذلك حين أصاب عقله الاختلال بعد ما فات الأوان.. مثلما أدركت القوي الشعبية أن التسليم بانكسارها سريعاًَ أمام تحول محمد علي وكان يمكنه - بتقويمه أو مواجهة استبداده - وضع نهضة مصر الحديثة في موضعها الصحيح عمن قامت علي اكتافهم من المصريين وإن كان هذا الدرس له أثره في امتداد الحركة الوطنية فيما بعد.
- وهنا نذكر هذا الامتداد في مشاركة شعبية مثلما حدث مع (أحمد عرابي) حين انتقل بتحركه استجابة لمطالب زملائه من الضباط المصريين.. إلي مطالبة بالحرية للشعب كله ومواجهته للخديو وتدخلات الدول الأجنبية في مشهد لم ينسه التاريخ..وحينها تحول التمرد إلي ثورة - تخص مصالح وحرية الشعب كله - كان الشعب جميعاً يقف وراءها ولن ينسي خروج الفلاحين والفلاحات بالمؤن إلي التل الكبير (من طلعة الفجر قومي - يا مصر يا عياشة - وتري عيشك لأحمد عرابي باشا)!
- بالمثل وقف الشعب كله وراء (سعد زغلول) وزملائه..حين تحول صدام نخبة سياسية مع الاحتلال إليعقاب بالنفي لسعد وزملائه.. فكشفت الإرادة الشعبية عن وجهها لتكون ثورة ١٩١٩ التي اربكت قوي الإحتلال وأعوانه.. والتي أرغمتهم علي الإفراج عن سعد ورفاقه وعودتهم من المنفي.. لتتواصل خطي الحركة الوطنية بسند شعبي صريح نحو التحرر والتقدم مواجهة للاحتلال الاجنبي وأعوانه بمن فيهم قوي التخلف - راجع تاريخ النهضة الفكرية في تلك الفترة.
- وإذ تصل الحركة الوطنية الي شاطيء (٢٣ يوليو ٥٢) تتبلور معها تجربة حياة جديدة قادها جمال عبد الناصر بإنجازات اقتصادية واجتماعية جذرية.. ولكنها تضع الشعب المصري أمام اختبار جديد في قضية المشاركة وقد وقفت غالبية الشعب خلف عبد الناصر وتجربته.. ولكن هذا لم يكن ضماناً لحماية التجربة حين أحاط بها التآمر الدولي حتي نجح التآمر في ضربها في (٦٧).
- أعتقد أن الفترة الناصرية هي الأبرز في تاريخنا الحديث.. ولكن الشعب الذي اكتفي عن المشاركة بما تحقق اقتصادياً واجتماعياً - بعد ظلم اجتماعي طويل - هذا الشعب نفسه هو الذي اثبت تواجد الإرادة الشعبية رغم ما كان.. فلم يشهد التاريخ شعباً يخرج بالملايين لينادي القائد المهزوم ان يقف عد إلي مقدمة الدفة ثانية.. ويتحقق ما قد بدأنا به من حديث عن حرب أكتوبر والتي جاءت مؤكدة توحد قوي الشعب مع ابنائها في الجيش المصري لتحقيق انتصار أذهل العدو وحلفاءه وأكدت إرادتها كان الاختبار في النهاية لصالح مصر وشعبها حين تتجلي إرادته رغم التعثر والتآمر.
- وسرعان ما برز السؤال المؤرق: لم توارت سريعاً هذه الإرادة.. بعد نصر عظيم؟ لماذا تغير كل شيء بعد هذا الإنجاز وفي سنوات قليلة؟ لماذا تحولت كل المسارات والخيارات؟
ماذا حل بالانتصار الواعد؟ ونكمل لاحقاً ما كان.