الأهرام
د.محمد مختار جمعه
الاتزان السياسى
الاتزان مطلوب فى كل شيء, فحب التناهى شطط خير الأمور الوسط, وقد قيل لسيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: هل تجد هذا المعنى فى كتاب الله عز وجل, فقال: نعم فى أربعة مواضع: قوله تعالي: “ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا “, وقوله سبحانه: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا “, و” وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا “, وقوله تعالى” قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ”. وكانت العرب تقول: أحبب حبيبك هونًا مَّا، عسى أن يكون بغيضك يومًا مَّا، وأبغض بغيضك هونًا مَّا، عسى أن يكون حبيبك يومًا مَّا, ويقولون: ليس فى السياسة عدوّ دائم ولا صديق دائم, فما أسرع تقلباتها وأكثر تحولاتها. وقد قالوا أيضًا: لا ينبغى أن تضع البيض كله فى سلة واحدة, فهى مخاطرة بذهابه كله, فقد تكون مكاسب الاستقطاب الحاد عاجلة أو سريعة لكنها قد تُشكل على المدى البعيد خسائر فادحة, على أن قضايا الاستقلال أو التبعية تتعلق بمدى الإرادة والقدرات والملكات التى تهيئ صاحبها للاستقلال أو تدفعه إلى التبعية.

والتابع لا قرار له, وإن تظاهر بأنه صاحب قرار جريء أو حر, فقراره من قرار متبوعه, والحر المستقل المتزن إنما يقدر لقدمه قبل الخطو موضعها, ويحسب لكل قرار حسابه, وهذا النوع من الأفراد والدول يحسب له ألف حساب حتى وإن تعرض للضغوط ومحاولات كسر الإرادة, وليس القرار الحقيقى لمن يضغط أكثر إنما هو لمن يتحمل أكثر حتى يحول ولو على المدى البعيد الضغط إلى ضغط مضاد, وتتكون لديه مناعة تجاه أى ضغوط, فالعالم لا يحترم إلا الأقوياء وأصحاب القرار والإرادات القوية الصلبة, على أن ثمة فرقًا واضحًا بين القرار الحُرّ المستقل وبين التهور واتخاذ خطوات أو إجراءات غير مدروسة تنتج عن انفعالات طارئة أشبه ما تكون بردود الأفعال غير المتعقلة التى قد تأخذ صاحبها إلى طريق الهاوية أو اللارجعة, أما الأشخاص المتزنون نفسيًّا وفكريًّا المؤسسيون الذين يُعملون عقولهم فى كل ما يعرض عليها قبل اتخاذ القرارات, فغالبًا ما يكونون فى مأمن من الانزلاق والتورط فيما يكاد لهم أو يُعمل على جرهم إليه أو توريطهم فيه، الاتزان السياسى يعنى التركيز على البناء لا الهدم, على العمل لا الكلام, على أن يكون لك مشروع تتبناه وتحسن تسويقه, لا أن تبنى كل نجاحاتك على هدم الآخرين، الاتزان السياسى يعنى أن ندرك الفرق بين الواقع والمثال, بين التنظير والتطبيق, بين ما يمكن أن يكون وما هو كائن. ويعنى أن تعمل على بناء نظرية سياسية قابلة للتطبيق والتحقيق على أرض الواقع ، تنسب إليك لا إلى غيرك, بحيث تكون علامة بارزة لك, ويكون لها من الخصائص ما يميزك عن سواك, لا أن تسطو على مناهج الآخرين سطوًا تلفق من هذا وذاك ما تزعم أنه منهج جديد. والمنهج الحقيقى يقوم على خطة مدروسة يتم تطبيقها على أرض الواقع, على أن تكون مرنة، قابلة للتعامل مع المستحدثات والمستجدات, بحيث يؤدى نجاحها إلى تحقيق الأهداف المنشودة, ويشكل ملامح المنهج التطبيقى ومعالم المدرسة السياسية التى يمكن أن تترك بصمة فى دنيا الناس وتحفر اسم صاحبها أو أصحابها فى ذاكرة التاريخ, ولا يمكن أن يتم ذلك لغير المتزنين فكريًّا ونفسيًّا وسياسيًّا.

الاتزان السياسى يعنى أن تكون لديك القدرة على احتمال الضغوط وامتصاص الصدمات وتجاوز الأزمات، وألا تذهب إلى أقصى الطرف مفرطًا أو مفرّطًا أو منساقًا، وقد قالوا لكل شيء طرفان ووسط، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان، الحالة الوحيدة التى يمكن أن تمسك فيها بطرف وبقوة هو حيث تكون مصلحة الوطن فى طرف ما ويكون الطرف الآخر حملا أو عبئًا عليه، فهنا وبلا أدنى تردد سنكون فى كفة الوطن وفى مواجهة أعدائه دون إمساك للعصا من المنتصف، فالاتزان المطلوب هو الاتزان المرن الذى يخدم مصالح الوطن ويدور معها حيث دارت ويكون فى خدمتها أينما وكيفما ومتى تعينت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف