عبد الرحمن سعد
اللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا
"يا واقفا عند قبري.. لا تتعجبنَّ من أمري.. بالأمس وقفتُ مثلك.. وغدا سيقفون عندك".. هكذا كتب أحدهم على قبره.. فاللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا.
ليس هناك أروع من أن يتعظ المرء بغيره، وبمصائر من حوله. إن السعيد من اتعظ بغيره، وبما جرى له وعليه. والحكيم من أحكمته تجاربه. والشقي من اتعظ به غيره. وفي الحوادث حِكَم، ومُعتبر.
قيل لعيسى عليه السلام: مَنْ أدبك؟ قال: "ما أدبني أحد، ولكني رأيت جهل الجاهل فاجتنبته".
وروى الإمام مسلم، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ".
والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب. يُقال: "وعظته وعظا وعِظة فاتعظ"، أي قَبِلَ الموعظة. والسعيد من اعتبر بما يحل بمن سواه من سوء حاله، فلا يفعل فعله؛ ليلا يحل به مثله.
ووُعظ القوم بما وُعظوا أي: عوتبوا ووُبخوا. و"الوعظ والعظة والموعظة" مصادر قولك: "وعظتُه أعظه". وهو زجر مقترن بتخويف.
إن الله تعالى قال: "وكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ* وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ". (يوسف:105 و106).
وقال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ". (إبراهيم:42).
"كم من ملوك وجبابرة فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبرا بعد عين، وأثرا بعد ذات؟. أين عاد وثمود وفرعون ذو الأوتاد؟ أين الأكاسرة والقياصرة والجبابرة؟". (موسوعة خطب المنبر).
قال الله تعالى: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ".(النور:44)
"التقليب" هو تغيير الهيئة إلى ضدها. وتقليب الليل والنهار: تغيير الأفق من حالة الليل إلى الضياء، ومن النهار إلى حالة الظلام. فهذا التقليب محل للاعتبار.
فمتى نتعظ، ونعتبر، ونتدبر، ونتفكر؟
إن حياتنا تمضي: فقرا، وغنى.. صحة ومرضا.. شبابا وهِرما.. صفوا وكدرا.. شدة وترفا.. دون أن نتعظ، أو نعتبر.. في الغنى تشغلنا المُغريات، وفي الفقر ننشغل بالهم والرزق.. وفي الصحة ننشغل بالنعمة. وفي المرض ننشغل بالمعاناة.
لا نتعظ بموت من حولنا، ولا توديعنا، ذات يوم، مَنْ خلفنا، ولا نقف على خلق السموات والأرض، ولا ما فيهما، ولا ما بينهما.. فقد اعتدنا أن نتذوق طعامنا دون أن نتأمله، وأن تمر أيامنا، دون أن نقف عند دقائقها.
ولأننا أمة لا تتفكر، ولا تتدبر؛ فقد تركنا لأعدائنا حرية التفكير عنا، وفرض تفكيرهم علينا، نقتبسه عنهم، كثيرا؛ كأننا أموات، دون تمييز للغث من الثمين.
مع أن الله تعالى قال: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ". (آل عمران:190).
ومع أنه، سبحانه، حذَّرنا من تعطيل أدوات الإدراك فقال: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ". (الاعراف:179).
ومع أن سلفنا الصالح، رضي الله عنهم، حذرنا من عدم التأسي والاعتبار. فقال على بن أبي طالب: "لا تكن ممن يرجو الآخرة بلا عمل، ويرجو التوبة بطول أمل.. يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها بعمل الراغبين، يخاف على غـيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه أكثر من عمله، يصف العبر ولا يعتبر.. ويرشد غيره ويغـوي نفسه".
ولا سبيل للاتعاظ والاعتبار دون تدبر القرآن (الواعظ الناطق)، وذكر الموت (الواعظ الصامت).
وكما مرت علينا آيات القرآن السابقة، تأمرنا بالاتعاظ والاعتبار؛ قيل: "كفى بالموت واعظا". وقال أبو الدرداء، رضى الله عنه: "إذا ذُكر الموتى، فعُد نفسك كأحدهم".