أمانى هولة
شجون أكتوبرية 8.. (حكايات وطن 91)
مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة، متشحة بألوان الرحيل، مستسلمة لوعد رياح لا تنسى المواعيد ولا تنعى الراحلين.. وككل عام، عبثت أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه.. ذلك اليوم الفارق فى حياتنا، فلا يزال أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام، ثم أضنُّ عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم. فهل تسمح لى، يا قارئى العزيز، بأن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئنُّ به.. أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الخيال بواقع لا يقل روعة عنه.. على أن تترفق بحكاياتى وشجونى.. فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكّرنا بما يجب ألا ننساه.
الخواجة
كان مصدر تندُّر الكتيبة كلها بلكنته العجيبة التى اختلطت فيها الكلمات العربية بمرادفاتها الإنجليزية فى كوكتيل مضحك تكاد بصعوبة تلتقط منه ما تيسّر بمساندة قوية من اللغة العالمية التى يفهمها الجميع، لغة الإشارة.. ليزيد الطينة بللاً مظهره المتفرنج وعاداته المكتسبة من حياته بعيداً جداً، حتى لقبوه بالخواجة.. إنه يوسف، أو جوزيف كما اعتاد أن يسمع اسمه منذ أن غادر الوطن وهو بعد يحبو على أول طريق اكتشاف الحياة. وهناك، فى بلاد الشمال البعيدة، تعلّم أشياء أخرى، وقد أصبح الوطن مجرد خانة فى شهادة ميلاد منحته لفحة سمار ممتزج بوسامة شرقية لا تستطيع مقاومة سحرها الشقراوات.. ولقب مواطن من الدرجة الثانية، حيث الحرية بتوقيع العم سام عرجاء عوراء.. شمطاء.. تتوارى خلف قناع العنصرية بكل أنواعها.. بعد أن فشلت كل مساحيق التبرج أمام فجاجة ووقاحة الواقع.. كان كل شىء يدفعه بعيداً عن الوطن، لكن تظل كلمات الجد العجوز بلمسات قليلة على وتر حساس فى القلب هى كل ما يحتاجه ليهزم كل جيوش التغريب.. وتظل حكايات الجد القديمة معطرة بذكريات لم تستطع أن تمحوها كل سنين الغربة، هى مرفأ أمان يلوذ به كلما ضاقت به الحياة.. الصحاب الطيبين ورجولة مبكرة وجدعنة ليس لها مثيل.. شقاوة زمان وبنت الجيران وأول «نغبشة» للمشاعر.. الجيران وبيوت أخرى للقلب وأمهات لا تملّ التدليل.. مدرس الفصل وأبوة لا تتوقف عند أبجديات الحروف.. حكايات وحكايات نسجت فى خيال الطفل الصغير عالماً سحرياً لا يعرف ماذا يسميه ولكنه كان يشعر بانتماء إليه.. وبأنه يبحث عن شىء لا يجده إلا فيه.
وقد أصبح شاباً مطلوباً للتجنيد. عاد أخيراً، رغم تحذيرات الجميع، إلى أرض الوطن، ارتدى بذلة الجندية الخشنة وقرر أن يخوض التجربة، متجاهلاً بريق الحضارة ورفاهيتها خلفه.. كانت كتيبته نموذجاً صغيراً للوطن.. فيها الريفى الساذج المنبهر.. المثقف الباحث عن الحقيقة.. الشاعر الحالم بصوت شجى يملأ أمسياتهم بأغانى الشجن والوطن. وكان رفيقه فى التدريب عبدالرحمن القادم من أعماق الصعيد هو وجه آخر للوطن، يحاول أن يمنحه من خبراته المتواضعة حياة لم يعشها، ولكنه يحتاج أن يكتشفها.. كان حديثهما معاً أكثر ما يدهشك، فكيف للقلوب أن توحّد ما فرّقته السنين والأماكن وحتى اللغة.. ورغم همسات لا بد منها فى كل تجمع بشرى عن صنيعة الغربة بالناس والتشكيك فى انتماء لأرض لم ترو خضار طفولته وصباه.. فتلك مهمة إبليس الأزلية على وجه الأرض.. كان يوسف يعبر تلك الهمهمات بمساحات من التسامح والمحبة جعلت الغفران أسبق من التعصب والحماقة.. وبدأت تتضح الصورة أكثر وأكثر، وتتجمع الحقائق لتكمل كلمات الجد وقائع ترصدها عيونه ويكملها قائد الكتيبة وهو ينسج كل يوم زهرة جديدة فى ثوب الوطن ترف ما مزّقه الأعداء وروّجه العملاء.. وأصبح القمر والليل والصحراء على الضفة الأخرى شهود عهود كل ليلة من الأمل والغضب والحلم.. بعد يوم طويل من التدريب والتجهيز والعمل.
وحانت لحظة الحقيقة.. وانتفض الرجال يسابقون رياحاً مشتاقة لتراب أرض الأنبياء.. وظلت المهمة الأولى والأصعب وكلمة السر التى ستحفز آلاف النسور للعبور هى رفع العلم. صاح الجميع فى تهافت لنيل شرف ما بعده شرف لتمتد يد القائد ليوسف وعبدالرحمن وسط دهشة الجميع وغيرتهم الجميلة.. امتدت يدا الرفيقين يساندان بعضهما رغم كثافة قصف الأعداء.. لتنبش أظافرهما طريق الصعود إلى قمة الحاجز اللعين.. يسقط عبدالرحمن شهيداً.. فيتمسّك يوسف بالعلَم مواجهاً أكبر قدر من الطلقات وُجّهت لجندى واحد فى العالم.. ويرتفع العلم معانقاً السماء.. ليدرك يوسف أخيراً ما كان يبحث عنه طوال حياته، فلكل إنسان وطن واحد وإن لم تستطع العيش من أجله فما أجمل الموت من أجله.