سامى شرف
السياسة الخارجية المصرية .. استعادة الدور والمكانة
فى ظل تشابك المصالح عالميًّا وإقليميًّا، وتلاشى الحدود بين الداخل والخارج، والتأثير الكبير المتبادل بينهما، لم يعد فى إمكان أية دولة حماية مصالحها العليا فى عزلة عن محيطها الخارجي، ودون القيام بدور فى هذا المحيط بدافع حماية مصالحها، وتقليص التأثيرات السلبية لهذا المحيط على تلك المصالح، وتعظيم الفرص المتاحة به لتحقيقها.
ولا شك أن المصالح الوطنية لدولة مثل مصر بما لها من موقع جغرافى وإمكانات ورسالة حضارية فرضت عليها الاهتمام بالمحيط المجاور لها، وربما أبعد من هذا المجال. كما أثبتت التجربة التاريخية أيضًا أن العالم العربى هو المجال الطبيعى لممارسة مصر وظيفتها الإقليمية؛ ففيه يجتمع الحد الأقصى من كثافة وفاعلية السياسة المصرية الخارجية، وكذلك من جدواها ومردودها أو عائدها على المصلحة المصرية، والأمن القومى المصري.
ورغم أن دور مصر الإقليمى شهد تأرجحًا ما بين القوة والضعف؛ نتيجة لعلاقات التأثر والتأثير بين البيئة الداخلية للدولة المصرية، والبيئة الخارجية لها ـ تفاعلات النظام الدولى والإقليمي- إلا أن تطورات الأوضاع بمصر وخارجها أكدت - بما لا يدع مجالا للشك- أن قيام مصر بدور خارجى قوى ونشيط كان له مردود إيجابى على الداخل المصري؛ حيث الاستقرار والتنمية، والعكس عندما تَراجَع دور مصر، ومال إلى الانعزال عن محيطها الطبيعي، المحيط العربي، كان له مردود سلبي.
فمصر القوية هى التى تمارس دورًا إقليميًّا نشيطًا ومؤثرًا، والعكس تقوقع مصر وتراجع دورها هو انعكاس لضعفها. ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعى أن يثار الحديث من جديد داخليًّا وخارجيًّا حول طبيعة الدور الخارجى لمصر عقب الحراك الثورى الذى شهدته المنطقة العربية فيما أطلق عليه الربيع العربي، وسقوط نظام مبارك، ثم نظام جماعة الإخوان المسلمين عقب الموجة الثانية، وما تلا ذلك من تغييرات عدة على المجتمع والسياسة فى مصر، تترك أثارها بالضرورة على سياسة مصر الخارجية، توجهًا وممارسةً ومؤسسةً، بما يزيد من فرص مصر فى عودة دورها الإقليمى مجددًا لممارسة مهامه فى دائرة نفوذه التقليدية، بعد أن تحررت من القيود التى فُرِضت على السياسة الخارجية إبان العقود الأربعة السابقة، وأصبح لمصر قدرة على مراجعة سياستها الخارجية فى مختلف الدوائر، بما يجعلها أكثر استجابة للإرادة الشعبية المصرية.
تمصر دولة قديمة، وربما تكون الأقدم فى التاريخ البشرى، ولديها تراث حضارى متعدد المراحل جعلها إحدى الدول القليلة المعروفة لدى كل شعوب الأرض، كما أنها مارست دورًا خارجيًّا نشطًيا على المستوى السياسى والاقتصادى والعسكرى والثقافى فى مراحل تاريخية مبكرة ومختلفة، على نحو شَكَّل أحيانًا خرائط المنطقة.
والتطورات اللاحقة فى تاريخ مصر الحديث والمنطقة لم تُفعَّل سوى أن تؤكد الدور الإقليمى لمصر، وإن كانت قد وسعت من بعض عناصره خلال فترات قوة الدولة المصرية، كما شهدت تجربة محمد على والرئيس جمال عبد الناصر.ت
وفى كل مرحلة تاريخية يعانى فيها النظام الإقليمى العربى حالةً بالغةً من الضعف والاختراق الخارجى ـ مثلما يشهده الآن من مخططات ترمى إلى تفجير المنطقة من الداخل؛ بهدف إعادة ترتيب أوضاعها بما يحقق مصالح قوى معينة طامعة فى مقدرات هذه الأمة ـ والصراع غير المسبوق على الأدوار، وتعظيم المصالح على حساب العرب، أمام كل هذا يتساءل العرب عن الدور المصري. فثمة من يعتقد جازمًا أن أزمة النظام العربى الراهنة -فى جزء منها على الأقل- نابعة من غياب الدور المصرى الفاعل والمتكامل. وعلى الجانب الآخر، فإنه مما لا شك فيه أن دور مصر العربى تفرضه اعتبارات المصلحة المصرية البحتة، وأن عدم القيام بهذا الدور يعنى إلحاق ضرر كبير بهذه المصالح، وهو ما أكدته التجربة التاريخية لمصر منذ الربع الأخير من القرن الماضي. لذا كان طبيعيًّا أن يتابع العالم أجمع، وفى القلب منه العالم العربي، باهتمام بالغ تطورات الأحداث فى مصر لحظة بلحظة عقب ثورة 25 يناير 2011، ويصدر عن كل قادة المنطقة تصريحات تعبر عن تطلعهم لعودة مصر إلى ممارسة دورها العروبى الرائد فى المنطقة.
إلا أن تطورات الأحداث فى مصر أتت بما لا تشتهى سفن القومية العربية؛ حين استولت جماعة الإخوان المسلمين على سدة الحكم فى مصر ـ فى ظل ظرف تاريخى ليس هذا مجال تحليله ـ وخابت آمال القوى القومية فى المنطقة بعد أن أعلنت الجماعة عن نهجها الخارجى إزاء الأمة العربية عبر سياسات التدخل فى الشئون الداخلية للدول، ودعم جماعات وتنظيمات معادية للأنظمة العربية فى منطقة الخليج العربى وغيرها، وتصريحات قادة الجماعة والمتحدث باسمها محمود غزلان العدائية لعدد من الدول العربية.
ومرة ثانية تلتفت أنظار العالم باهتمام شديد للموجة الثانية من الثورة المصرية فى 30 يونيو 2013 التى أزاحت عن كاهل الدولة المصرية خطر جماعة الإخوان المسلمين. ومن جديد تتطلع الأمة العربية للدور المصري؛ لعله طوق النجاة من الوقوع فى مخطط تفكيك المنطقة عبر سلاسل من الحروب الأهلية. وقد عكست تصريحات وتحركات القيادة السياسية عقب 30 يونيو 2013 فى مصر إدراكها بأن المحيط العربى هو المجال الحيوى والطبيعى للدور الخارجى لمصر، وأن هناك من المخططات ما يحاك لإحداث فوضى به، وأن على مصر استنهاض دورها الإقليمى العربى لمواجهة ذلك المخطط؛ إيماناً بأن آثاره سوف تطول الجميع، وفى القلب مصر، باعتبارها المستهدف الرئيسي.
ورغم هذا، فتطورات الأحداث فى المنطقة المحيطة بمصر، حيث تفشى العنف والارهاب الديني، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تواجهها مصر، والمحاولات الخارجية للتأثير على القدرة المصرية، واستقلال القرار المصري، كل ذلك كان عقبة كؤود أمام الدور الخارجى لمصر.
بدت الاستجابة المصرية فى الخروج للإقليم بمنطق وظيفى شابته سمات ارتباطية بين سياسات الداخل (الحفاظ على الدولة ضد الإرهاب ومواجهة ضغوطات جماعة الإخوان المسلمين، وتحسين الاقتصاد نتاجا لإدراك النظام أن مدخل شرعيته يكمن باستعادته معادلة الأمن والتنمية المفقودتين)، وتحركات الخارج ( صياغة تحالفات إقليمية مع دول الخليج كمدخل للدعم الاقتصادي، وبناء تحالف إقليمى ضد حركات الإسلام السياسى المسلح، وتقليل الضغوطات الدولية، واختراق المحيط الأفريقى وخصوصا من جهة تشاد والجزائر والسودان لتوفير القدرة على الحركة تجاه ملفى الإرهاب فى ليبيا أو سد النهضة ).
ويمكن تلخيص ثوابت الدور المصرى التى تفرضها المحددات الجغرافية على النحو التالي:
1 ـ وحدة الدولة المصرية ومركزيتها
إن الفكرة الأساسية فى التاريخ المصرى الحديث هى النمو المطرد فى مركزية الدولة، وقدرتها على السيطرة على الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولقد كان المصريون القدماء على وعى تام بذلك، رسخ ذلك الوعى طبيعة مصر النهرية. وعبَّر المصريون القدماء تعبيرًا حاسمًا عن هذا المعنى فى نص فرعونى منقوش يقول: اكل بلاد يغمرها النيل فى فيضانه هى من مصر، وكل من يشرب من ماء هذا النيل تحت جزر الفانتين فهو مصري.
2 ـ تأمين حصول مصر على مياه نهر النيل
معطيات الموقع الجغرافى لمصر فرض على مصر معضلات عديدة؛ فمصر بلد زراعى مطلوب منه توفير الغذاء لشعب يتزايد باضطراد مستمر، ومصدر غذائه الرئيسى هو الزراعة، فى حين أن مصر بلد يقع جغرافيًّا فى بيئة شديدة الجفاف، ومعدلات سقوط الأمطار به ضعيفة، ويعانى ندرة فى مصادر المياه الجوفية المتجددة والقابلة للاستخدام فى الزراعة. ولذا فإن المصدر الرئيسى ويكاد يكون الوحيد لمياه الرى والشرب هو نهر النيل الذى ينبع على بعد آلاف الأميال وراء حدودها الجنوبية.
3 ـ الارتباط العضوى بين الأمن القومى المصرى والأمن العربي
إن ارتباط الأمن القومى المصرى بالعربى فرضه الموقع الجغرافى لمصر فى قلب العالم العربى كما فرضته التجربة التاريخية، فالمنطقة العربية منطقة جيوبوليتكية واحدة بصورة عامة.
وقد أعادت الموجة الثانية للثورة المصرية فى 30 يونيو لمفهوم الأمن القومى المصرى معناه الشامل والحقيقى والتاريخي، وهو ما عبَّر عنه السيسى حين أكد أن أمن مصر جزء لا ينفصل عن الأمن القومى العربي، وأن مصر عليها التزام قومى وتاريخى ومصلحى بحماية الأمن القومى العربي، باعتباره مصلحة وطنية فى المقام الأول وقومية فى المقام الثاني.
لم يكن تصريح السيسى ـ قبل توليه الرئاسة ـ حول استعداد مصر لتلبية أى نداء من جانب السعودية أو الإمارات أو غيرهما من دول الخليج، لمساندتها عسكريًّا لمواجهة ما قد تتعرض له من مخاطر وتهديدات فى المستقبل، وأن زمن الاستجابة المصرية لمثل هذا النداء هو «مسافة السكة»، من قبيل المجاملة أو الدعاية السياسية، ولكن له واقع نابع من إدراك واعٍ أن أى تهديد لأمن دول الخليج هو تهديد لأمن مصر، يفرض عليه التدخل لدفعه، بل وإجهاضه قبل أن يقع. كما أن القيادة السياسية فى مصر بتكوينها العسكرى ووعيها الإستراتيجى عبَّرت عن وجهة نظرها فى القضية السورية بما يؤكد إدراكها أن الحفاظ على الدولة السورية، وحماية الأمن القومى للدولة السورية -وليس النظام- هو جزء لا ينفصم عن الأمن القومى المصري. وهو نفس ما أكدته بالنسبة لتطورات الأوضاع فى ليبيا والعراق حين عبَّرت عن حرصها ودعمها جميع الإجراءات الرامية لاستتباب الحالة الأمنية فى ليبيا والعراق، والحفاظ على وحدة وسيادة التراب الوطنى للدولتين.
وهكذا، يترسخ فى وعى صانع القرار المصرى أن مشكلة الأمن القومى المصرى وعلاقته بالأمن القومى العربى مشكلة داخلية أكثر منها خارجية.
من خلال ما سبق ندرك أن قيام مصر بدور خارجى ليس من قبيل الترف السياسي، أو إثبات مكانة كما تفعل بعض الدول والدويلات الآن، بل هو مسألة وجود للدولة المصرية ذاتها. كما لا بد من إدراك دروس التاريخ التى تؤكد أن الدور المصرى رهن ثلاثة عناصر رئيسية (العمق الحضاري- التاريخي، الجغرافيا، الأمن القومي)، وأن العامل الحاسم فى تراجع وانطلاق هذا الدور هو قدرات مصر الداخلية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان للبيئة الخارجية أثر لابد من الاعتراف به، ولكن مدى فاعليته وتأثيره يتوقف على قوة البيئة الداخلية المصرية.