قال لى صديقى «النخبوى» العتيد فى انفعال بالغ وسخط شديد:
- أنا غير مقتنع بتاتاً ألبتة أن تغيير القوانين وسرعة البت فى الإجراءات القانونية فى البنية التشريعية والحسم فى تطبيق العقوبات وتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة ضد الإرهابيين، هى الطريق الصائب والحل الحتمى للقضاء على الإرهاب.
- ما أن هممت بالتساؤل عن الأسباب التى دعته إلى الرفض القاطع، حتى أسرع مردداً بنفس النبرة:
- أنا غير مقتنع بتاتاً ألبتة أن الفقر يؤدى حتماً إلى الإرهاب وأرفض الانزلاق إلى تلك الأفكار والتصورات التى ما زال يروجها اليساريون والماركسيون عن التفاوت الطبقى والظلم الاجتماعى..
ده كلام «شمال» خالص.. ها.. ها.. ها
(فهمت فيما بعد أن كلمة «شمال» هذه يقصد بها فى لغة وفقه شباب هذه الأيام كل ما هو منحرف وحقير وسيئ السلوك).
أسرعت فى نفاد صبر وغيظ مردداً:
- أنا أتفهم جيداً أنك «نخبوى» عظيم الشأن والنخبويون يتميزون عن العامة البسطاء من أمثالى بأنهم يبدأون حديثهم دائماً بكلمة «لا» ويقتادون فى ذلك باستهلال قصيدة للشاعر الراحل «أمل دنقل» يقول فيها: -
(المجد للشيطان معبود الرياح / من قال لا فى وجه من قالوا نعم)
دعنا نناقش بهدوء كل اعتراض على حدة.. لماذا أولاً أنت غير مقتنع بتغيير القوانين وسرعة البت فى تنفيذ أحكام الإعدام؟
هتف فى ثقه واعتداد:
- ارجع إلى التاريخ واسأل نفسك: هل الردع بإعدام الإرهابيين أدى إلى نتيجة مباشرة بالقضاء على الإرهاب؟
سيد قطب مثلاً صدر حكم بإعدامه فى عهد (عبدالناصر) وفى خلال أسبوع واحد وقبل أن يفكر فى استئناف تم تنفيذ الحكم.. فهل انتهى فكره من الوجود؟.. إطلاقاً بل اعتبره أنصاره شهيداً (كحسن البنا) ومفكراً إسلامياً عظيماً وإماماً دينياً ورعاً.. وها هم «القطبيون» يكملون رسالته الإرهابية وينفذون مبادئه الإجرامية.
هل أرهب إعدام قتلة السادات الجهاديين؟
واجهته مردداً: مهما قلت يظل الردع السريع ضرورة أساسية من ضرورات مواجهة الإرهاب والإرهابيين فى هذه المرحلة الدقيقة وإلا ازداد توحشهم وأتوا على الأخضر واليابس.
- لا تنس أن هناك تخوفاً مشروعاً من انحراف التطبيق عن هدف عظيم وهو القضاء على الإرهاب باسم الدين -وهو أفظع أنواع الإرهاب على مدى العصور- من انتهاك الحقوق الإنسانية.
- قلت بغضب:
- حقوق الوطن وسلامته وأمنه أولى وأهم وأجدى.. ثم إنه أى حقوق إنسان تلك التى يمكن تحقيقها فى وطن منهار متداعٍ خائف لا يملك إرادته -لا قدر الله- لو نجح الإرهابيون فى التمكن منه؟
- أما ما أثرته من علاقة الإرهاب بالفقر فيبدو أنك لا تدرك إدراكاً كافياً أن مواجهة الإرهاب تنجح عبر التنمية ومواجهة الفقر والبطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
بل يبدو أنك قد نسيت أسباب قيام ثورتى 25 يناير و30 يونيو.. إنهما ثورتا الطبقة الوسطى والفقيرة ابتداء من الإرهاصات الأولى وحتى قيامهما.
هل أذكرك بـ«عبدالمنعم جعفر» الرجل البسيط صاحب كشك بيع الفول والطعمية لسائقى النقل فى طريق مصر الإسماعيلية، الذى سكب البنزين على رأسه وأشعل النار فى جسده أمام مبنى مجلس الوزراء قبل ثورة 25 يناير بعدة أيام لأن المسئولين تعنتوا معه فى صرف عدة أرغفة خبز زائدة؟
إن المجتمع الطبقى والهوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء وعلى رأسهم لصوص المال العام وأراضى الدولة وأموال البنوك فى مجتمع فاسد، هم الذين عجلوا بقيام ثورة يناير.. فلما وصل بعد ذلك الإخوان للحكم زاد الفقر والعوز والاحتياج فكانت ثورة 30 يونيو.. والحقيقة أنه رغم الإطاحة بحكم الإخوان البغيض واستعادة بناء مؤسسات الدولة من جديد.. والإنجازات الكبيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى لإعادة الإحساس بالانتماء للمواطن المصرى والسعى بقوة وشجاعة لنسف التبعية لأمريكا وإعادة الإحساس بالأمن.. وكسب ثقة واحترام وتعاون دول العالم الخارجى.. والبدء فى تنفيذ المشروعات الكبيرة.. إلا أن حلم تحقيق العدالة الاجتماعية ما زال بعيداً.. والهوة الشاسعة بين الطبقات ما زالت قائمة.. ونسبة البطالة لا تقل.. والحد الأدنى للأجور يتعثر.. والأقصى لا يفعل.. والعشوائيات تلطخ جبين وطن يزدرى الفقراء ويحتقرهم ولا يمن عليهم بأبسط الحقوق.. ويتركهم يموتون فى المستشفيات، ويُصرعون ضحايا قطارات صدئة متهالكة.. ومعدلات الجريمة ترتفع.. وحوادث الانتحار ترتفع ولا تقل.
والحقيقة أيضاً أننا لا يمكننا بأى حال من الأحوال أن ننكر جسامة المعركة ضد الإرهاب التى تخوضها قواتنا المسلحة الباسلة وتحقق رغم شراسة وتوحش العدو انتصارات كبيرة فى سيناء.
ولكننا فى النهاية نحن لا يمكننا أن ننحى المشاريع الكبرى للتنمية جانباً بحجة أننا نواجه الإرهاب.. والمشروع الأكبر وهو الحرب ضد الإرهاب لا يتناقض مع الاستثمار.. وبناء الوطن.. وإلا خلقنا نوعاً آخر من الإرهاب.. لن يكون مصدره الإخوان أو السلفيين أو الداعشيين أو الجهاديين.. أو سائر التنظيمات التى تتخذ من الدين ستاراً لها.. بل هو إرهاب الجوع.. هل فهمت؟!.. إرهاب الجوع.