المصريون
جمال سلطان
الإصلاح المستحيل في مصر الآن
في الوقت الذي كان فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي يجتمع مع مئات الشباب و"العجائز" على شاطئ البحر الأحمر في مدينة شرم الشيخ كان عشرات الآلاف من المصريين ينتظرون الموت والخراب والدمار على الجانب الآخر من شاطئ البحر الأحمر نفسه في مدينة رأس غارب ، التي اجتاحتها السيول لتحيل حياة الأهالي جحيما ويموت غرقا أو بلدغ الأفاعي حتى الآن حوالي ثمانية وعشرين مواطنا ، في نفس الوقت الذي كان فيه السيسي يبشر المصريين بالمشروعات العظيمة والإنجازات التي يخفيها المعارضون ويحذرهم من "أهل الشر" والأصوات الإعلامية المغرضة التي تشوه الإنجازات وتحبط الناس ، كان ملايين المواطنين من أهلنا في الصعيد يواجهون الموت والخراب بفعل السيول التي اجتاحت مناطقهم الفقيرة أصلا ، لتقتل وتخرب وتخلف الهم والغم والمزيد من الفقر ، ورغم أن الدولة والحكومة والرئاسة والأجهزة يعرفون مسبقا موعد السيول ، ورغم أن هيئة الأرصاد حذرت قبل شهر كامل من خطورتها وحددت مواعيدها ، إلا أن الجميع كان مشغولا بإتمام الحفل الساهر في شرم الشيخ والذي امتد على ثلاثة أيام بلياليها وإخراجه في أبهى صورة ، وليس بالاستعداد لهذا الخطر الذي يهدد أرواح الملايين ، واليوم خمر وغدا أمر ، وهو أمر لا يأتي أبدا ، كما سيكون من العسير أن نعرف من المسئول عن إنشاء الطرق غير المطابقة للمواصفات الفنية والعلمية والتي انهارت في يوم واحد من المياه وتسببت في قطع السبل بآلاف المسافرين الذين حبسوا في الصحراء أو عادوا إلى أقرب قرية أو مدينة ينتظرون الفرج . وعلى جانب آخر من نفس اللوحة المتناقضة والخارجة على أي منطق أو معقولية ، وبينما لم تكتمل مغادرة "المحتفلين" في شرم الشيخ مع الرئيس بحديثه الواعد المفعم بالانفتاح والتعددية والإيمان بالرأي والرأي الآخر ، بعد ثلاثة أيام فقط من وقفة مكرم محمد أحمد الشهيرة أمام الرئيس ، ليقول بكل حماسة الشيوخ واهتزاز مشاعر "الحكماء" أن هذه الحرية والرأي والرأي الآخر أمام رئيس الجمهورية ومع رئيس الجمهورية لا تحدث في أي مكان آخر في العالم إلا في مصر !! ، بعد أيام ثلاثة فقط من تلك الخطبة العصماء ، كانت التعليمات تصل إلى قناة المحور الفضائية تطلب منها "الجهات السيادية" منع بث الحوار الذي أجراه مذيعها معتز الدمرداش مع المستشار هشام جنينه ، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات ، وصاحب القضية الشهيرة بإعلانه أن فاتورة الفساد في مصر وصلت ستمائة مليار جنيه في أربع سنوات ، وبدلا من بحث السلطة عن هؤلاء الفاسدين لمحاسبتهم واسترداد حقوق الدولة ، حقوق الناس ، اتجهوا إلى هشام جنينه نفسه فحاكموه بتهمة بث إشاعات وأخبار كاذبة ـ الحديث عن الفساد أصبح إشاعات ! ـ وقرروا سجنه وما زال ينتظر القرار النهائي لمحاكمته ، رغم أن حوار هشام جنينه لم يكن على الهواء ، كان مسجلا ، وخضع ـ بداهة ـ للمونتاج المطلوب ، ولكن يبدو أنه من باب الاحتياط ، قاموا بمنع إذاعته . نقول ثور يقولوا احلبوه ! ، مثل مصري عامي شائع وعتيق وعريق ، يشير إلى عبث أن تظل تنتظر نتيجة مستحيلة من موضع لا يمكن تصور أنه ينتج مثل تلك النتيجة أصلا ، وهذا ما أعتقد أنه يسري على أوضاعنا الحالية ، فنحن بإزاء منظومة سياسية تم بناؤها بطريقة خاطئة تعطي أولوية مطلقة للسيطرة والتحكم الكامل في كل مفاصل الدولة ومنع أي حراك شعبي بأي سبيل ، ووضعت لها رؤية ومنهج وترتيبات لا يمكن أن تثمر ديمقراطية أو حريات عامة أو عدالة اجتماعية أو شفافية أو تعددية سياسية أو كرامة إنسانية ، والوضع هنا لا يتصل بإرادة شخصية ، حتى لو كانت إرادة الرئيس السيسي نفسه ، هي منظومة بكاملها تم تصميمها وتنفيذها وتربيط أجزائها على نحو صارم ، وتلك المنظومة الجديدة تعددت فيها مراكز القوة ومصالحها ، كما أنها منظومة متساندة ومترابطة ، ويدرك القائمون عليها أن تفكيك جزء منها سيتسبب حتما في تتابع تفكيك المنظومة كلها ، ولذلك ندرك ويدرك أي عاقل صعوبة أي إصلاح مهما كان صغيرا أو محدودا لأن أصحاب القرار أنفسهم يدركون ـ كما ندرك ـ أنه يمكن أن يكون كعب أخيل الذي ينفرط بعده النظام كله وينهار . ستظل المعاناة والآلام لكل المهمومين بمستقبل أفضل لمصر ، وسيظل التضييق والحصار وربما البطش بكل الباحثين عن الحرية والعدالة والكرامة ، كما ستظل هواجس الخوف والقلق والتوتر والفزع من "ظل" يناير مخيمة على أصحاب القرار في مصر ، تدفعهم لمزيد من السيطرة والمزيد من خنق الحياة العامة وتجفيف منابع أي حراك مجتمعي يمكنه أن يكون فاعلا ومؤثرا بشكل جدي في تغيير وجه الحياة ، حتى يصل الجميع إلى النقطة التي يقتنعون فيها بأن المنظومة كلها لم تعد قابلة للحياة والاستمرار ، المنظومة كلها تحتاج إلى تغيير ، وتحتاج إلى شجاعة الاعتراف بخطأ المسار ، والعمل الحكيم والجاد من أجل توافق مجتمعي سلمي يؤسس لنظام سياسي جديد ونهضة شاملة تستحقها مصر وتمتلك مفاتيحها بالفعل .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف