«شيطان صغير عابر» عنوان كتاب جميل جدا، صدر أخيرا (عن مركز المحروسة 2016) لأديب موهوب وصحفى بالأهرام، هو محسن عبدالعزيز. الكتاب صغير جدا ـ133 صفحة من القطع الصغير)، ولكننا نعرف بالطبع، من تجارب كثيرة سابقة، أن الحجم شيء وقيمة الكتاب شيء آخر، يمكن اعتبار الكتاب رواية، أو سيرة ذاتية، ولا يهم ماإذا كان الكاتب يروى قصته هو أو قصة شخص يعرفه جيدا، ولكن سرعان ما تكتشف أن الكاتب حكاء ماهر، وأنه يختار من بين ما يصفه من شخصيات وما يرويه من أحداث ما له مغزى إنسانى عام. القصة تروى حياة شاب، منذ أن كان طفلا فى قرية صغيرة فى الصعيد، حتى أصبح صحفيا فى جريدة كبيرة فى العاصمة، الولد لديه منذ صباه موهبة التعامل مع الكلمات، ومن ثم يهوى الكتابة، ويدفعه هذا إلى أن يصدر فى سن مبكرة صحيفة توزع فى قريته، وقرى مجاورة، ويقوم هو بكتابة معظم مقالاتها وموادها، وإن كان يضع عليها أسماء أصحابه. والكاتب لديه قدر كبير من الجرأة، فى اللغة التى يستخدمها، وفى التنقل من الفصحى والعامية، وفى تحليل الشخصيات (وإحداها شخصية مشهورة جدا)، وكذلك فى الكلام عن موضوعات كالجنس والدين، بل وحتى فى اختيار عنوان الكتاب. عنوان الكتاب لا يوحى بسهولة بمحتواه، ولكنك سرعان ما تكتشف أنه بكلمة «شيطان» يقصد معنى قريبا من معنى كلمة «عفريت»، كما نستخدمها فى العامية.
تفاجأ بعد صفحات قليلة من الكتاب بجرأة غير عادية فى وصف طريقة الولد العفريت فى مخاطبة أمه، حتى وهى فى مرضها، وهى عبارة صادمة للقارئ فى هذا الوقت المبكر من الكتاب، ولكن سرعان ما تكتشف مقدار الحب الذى ظل يحمله الطفل لأمه، وأن ما قاله لها وهو صغير ليس إلا مجرد «عفرتة». يذكر أيضا عن أمه شيئا مؤثرا، ووجدته ينطبق على حالتى أنا أيضا مع أمي، وهو الصعوبة التى يجدها الآن، بعد أن كبر، وبعد سنوات كثيرة من وفاتها، فى أن يستعيد إلى ذهنه صورة وملامح أمه بالضبط، يقول: «الغريب أننى أذكر مواقف وحكايات كثيرة أو شقاوات عديدة معها، لكننى عاجز تماما عن تذكر ملامحها»، وأنا أستطيع أن أذكر نفس الشيء عن أمي.
بعد بضعة فصول فى وصف حياته فى القرية، يخرج القارئ بفكرة جيدة عن اختلاف حياة القرويين عن حياة أهل المدن، واختلاف النظرتين إلى الحياة والموت. فى الكتاب عدة إشارات إلى العلاقة مع الجنس الآخر، تختلف بحسب السن التى تنشأ فيها هذه العلاقة، ولكنها كلها إشارات رقيقة وعذبة، مما يجدر الاقتداء به من جانب الكتاب الذين يظنون أن الكتابة عن الجنس يجب أن تكون بذيئة، هناك أولا إشارة إلى التنافس بين الصبيان إذ يحاول كل منهم أن يبرز قدرته على العوم أمام البنات اللاتى يغسلن الملابس فى الترعة:
«كل واحد يقترب من البنات، ويطلع علينا بحكاية بما رأي، من ابتسمت، ومن غمزت، ومن رشت عليه الماء». ثم هناك أول حب وقع فيه، وكان فى الثانوية العامة وهى فى الإعدادي، ولكن أقصى ما أسفر عنه هذا الحب هو أنه «بعد العشاء اخترع أى سبب لأمر أمام بيتها، وأراها تقف فى البلكونة، وفور أن ترانى تنزل»، ثم يسيران بلا خوف، ولكن بلا كلام أيضا، أقصى ما فى الأمر أن يمس ثوبها جلبابه، وأن يحس بأنفاسها وتحس بأنفاسه، وعندما نجح فى الثانوية العامة رآها تطير فرحا «وهى تقبل صديقتها أمامه»، وظلا على ذلك ثلاث سنوات «ولم تقل أكثر من ذلك أبدا، كنا نخشى على الحب الكبير أن ينكسر».
اختلف الأمر طبعا، عندما بلغ الثلاثين من العمر، ولم يكن قد تزوج بعد، فقد تجسدت نظرته للجنس الآخر فى نوع آخر من النساء، فيقول: «فى القاهرة القاسية كنت أبحث عن سيدة مثل زينات صدقى فى (فيلم) شارع الحب، وإذا احتدت شهوتى أبحث عن تحية كاريوكا فى (شباب امرأة)، واختلطت الأحلام بالأفلام، والفتيات بنجمات السينما». هناك فى مقابل هذا عدة فصول لوصف شخصيات المشايخ والأئمة الذين تعاقبوا على مساجد القرية، فهناك الشيخ هلال، أول من ألبس زوجته النقاب الأسود، الذى تمشى به كتمثال من الخشب، والنساء ينظرن إليها بابتسام ودهشة، أما هو (أى الشيخ هلال) فإنه يسير فى الأعياد فى سيارة وضع عليها ميكروفون ليغيظ النصارى «وذلك من باب عز الإسلام والمسلمين». ولكن هناك أيضا الشيخ عبدالسلام، الذى يسحر الناس بعذوبة صوته، «فالقرآن يترقرق من فمه صافيا، يأتى من نبع عميق خاشع، يتسلل إلى قلبك وروحك، فيصبح الأميون خلفه فاهمين لروح الآيات جيدا، برغم عدم معرفتهم معانيها».
هناك أيضا عدة فصول شيقة عن زملائه فى مباريات كرة القدم، التى كان يهواها أيضا، وكان هو كابتن الفريق، وفى وصفهم الاختلاف بينهم فى طريقة تعاملهم مع الكرة، يستغل هذا لوصف الاختلاف بين شخصياتهم، فأثناء وصفه حارس المرمى (ضاحي) الذى يقول إنه يذكرك بثابت البطل أو شوبير فى مجده، يذكر أنه اشتغل بعد ذلك بتجارة الأراضى والمباني، وأصبحت الفلوس تجرى بين يديه، ويحسن الإمساك بها مثل الكرة بالضبط، ثم يتساءل: «هل هناك علاقة بين حارس المرمى الجيد والبخل؟»، إذ إنه لاحظ أن معظم حراس المرمى الذين عرفهم، ويمسكون بالكرة جيدا، يفعلون نفس الشيء مع الفلوس «فلا تفلت منهم الكرة (وكذلك الفلوس) إلا فى حالات نادرة وبصعوبة شديدة». أثار الكتاب لدى من جديد مشكلة الفصحى والعامية، فالعامية كثيرا ما تنقل المعنى المقصود، والمشاعر المراد وصفها، بكفاءة أكبر مما تفعل الفصحي، ولكن العامية لها أيضا مشكلاتها التى جعلت كاتبا كنجيب محفوظ، يتجنبها تجنبا تاما، حتى وهو يسجل حوارا مع فلاح أمي، ليس فقط بسبب صعوبة الوصول بها الى القاريء العربى غير المصري، فهذا مما يجوز أحيانا أن نضرب الصفح عنه، ولكن لأن العامية كثيرا ما تكون ثقيلة على الأذن والذوق.
هذه مشكلة يصعب الوصول إلى قرار عام بشأنها ينطبق على الجميع، فلا يمكن مثلا أن نطلب من رجل مثل أحمد فؤاد نجم أو صلاح جاهين أن يستخدم الفصحى بدلا من العامية، ولكن هناك فى الطرف الآخر كثيرون جدا ممن يستخدمون العامية بكثرة، سواء فى تسجيل الحوارات أو فى السرد العادي، من يجب الامتناع عن نشر أى كتب لهم، سواء بالعامية أو بالفصحي، أما بين هؤلاء وهؤلاء، فيحسن أن نمتنع عن إطلاق حكم عام، وأن نترك كلا منهم ونصيبه مع القراء، ونحكم على تجربة كل منهم على حدة.
هذا الكتاب ينجح لحسن الحظ فى هذا الامتحان بجدارة، لاشك بسبب تمتع الكاتب بذوق سليم فى اختيار الكلمات، مثلما يتمتع به فى غير ذلك من الأمور.