مكرم محمد احمد
بداية الطريق الصحيح لاستعادة شباب مصر من الضياع
لعلها المرة الاولي التي ينطلق فيها صوت شباب مصر دون وصاية تفرضها عليه سطوة أبوية،تصادر علي حقه في ان يتعجل إصلاح مصر وتغييرها إلي الافضل لتصبح دولة مدنية ديمقراطية حديثة، قادرة علي النهوض بطموحات شعبها.
وهي باليقين المرة الأولي التي يجلس فيها جيل الآباء والأجداد في مقاعد المستمعين، ينصتون إلي رؤى أجيالهم الجديدة التي تطالب منذ زمن بضرورة التغيير دون ان يسمع صوتها احد، لان الجميع وضعوا في آذانهم طينا اوعجينا أوجد هذه الفجوة الواسعة بين أجيال مصر التي آن أوان ردمها لتصبح مصر أكثر تماسكا وقوة.
وأظن ان شباب مصر الذي تسيد المشهد في شرم الشيخ، وصنع هذا المؤتمر المهم علي نحو جد مختلف، اختفت منه خطب المواعظ ومحاضرات التلقين من أعلي المنصة والنصائح الأبوية المحفوظة، لتحل مكانها صور جديدة من الحوار والمشاركة والنقاش الحر، ومحاولات محاكاة واقعنا علي نحو أمين يكشف الاخطاء ويسد الثقوب، ويؤكد الدروس المستفادة،وأكد لنا ان اجيال مصر الجديدة قادرة علي ان تحمل الرسالة وتأخذ مصر إلي مستقبل أفضل!.
كان أكثر ما يقلقني وانا في الطريق إلي شرم الشيخ ـ عجوز هرم جاوز الثمانين عاما يتكئ علي عصاه لكنه لايزال يحلم بأن يري فجرا جديدا لمصر ـ ان يتحول اول مؤتمر للشباب إلي مؤتمر وعظي كما هي العادة، يقف فيه الكبار من الآباء والأجداد حكاما وأشباه حكام علي المنصة العالية، يمثلون السلطتين الابوية والزمنية وقد تجسدت في كيان بيروقراطي أمرا، يملك وحده الحكمة والقول الفصل والحل الصحيح!، مطلوب كما هي العادة ان يستمع الجميع إلي اوامره ونواهيه،لانه يكره الحوار والنقاش وتبادل الرأي! ويعتبر ذلك تجاوزا أخلاقيا مرفوضا وخروجا علي واجب الطاعة!، وكان هاجسي الاكبر ان يتكرر ما حدث منذ عقود من مواجهات مؤلمة بين المنصة والقاعة تزيد المسافات بعادا بين الجانبين، شهدنا سوابق عديدة لها في مؤتمرات مصرية سابقة لانزال نتذكر اصداءها حتي الآن!..، لكن المشهد في شرم الشيخ كان جد مختلفا، مؤتمر حقيقي يقوم علي الحوار والنقاش وتبادل الرأي لا علي التلقين والاوامر،يبلغ ذروته الديمقراطية في هذا المشهد الساخن الذي يصعب بل يستحيل ان تراه في اي من دول عالمنا العربي والشرق الاوسط إلا في مصر!.
الصحفي المصري النابه إبراهيم عيسي يجابه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في نقاش حول قضية حرية الرأي والتعبير، يطالب بإسقاط كل الاحترازات والضمانات في برامج التوك شو السياسية، بدعوي ان المشاهد يملك في يده سلطة التحكم في الموقف، ويستطيع ان يغلق الشاشة علي اي متحدث يرفض رأيه، باعتبار ذلك ضمانا كافيا يغنينا عن اي مواثيق شرف أوضوابط أخلاقية وليست سياسية علي محطات التليفزيون الخاصة، رغم ان هذه الضوابط يضعها ويقرها الإعلاميون دون تدخل من السلطة، وتطبقها نقابة الإعلاميين وفق قواعد وقوانين موجودة في كل وسائل الاعلام العالمية تلتزم كل شروط العدالة، علي حين يكتفي رئيس الجمهورية بمطلب واحد لخصه في ضرورة الالتزام بصدق الخبر ونزاهة الرأي..، ولان النقاش حول ضمانات حرية الكلمة طال وتشعب ودخل في دروب متعرجة ضيقة، وشرف أحسست ان من واجبي ومسئوليتي كصحفي افني عمره في هذه المهنة وشرف بان يكون نقيبا للصحفيين عدة دورات، أن أشارك بمداخلة لعلها تضع النقاش علي الطريق الصحيح، لم يكن حافزها الاول مواجهة الزميل إبراهيم عيسي او معارضة رأيه، لكن حافزها الاهم كان الدفاع عن مهنة الرأي والخبر التي تعطينا سلطة الاتهام وحق الشهادة، لكنها تلزمنا ضرورة صدق الخبر ونزاهة الرأي والالتزام بميثاق شرف أخلاقي يضع الفواصل الواضحة بين ما يجوز وما لا يجوز في قضايا حرية الرأي والصحافة.
لم يحصر مؤتمر شباب مصر جدول أعماله في قضايا الشباب، ولكنه ناقش علي امتداد أكثر من 30جلسة تحدث فيها أكثر من 480مشاركا معظم قضايا مصر،ابتداء من العلاقة المفتقدة بين سوق العمل ومنظومة التعليم المصري، ومشكلات المشاركة السياسية للشباب، وأبعاد المشكلة الاقتصادية الراهنة وضرورة توحيد سعر الصرف، وشغب الملاعب المصرية وصناعة البطل الاوليمبي، وتعظيم الاستفادة من المشروعات القومية الكبري، والعدالة الاجتماعية بين الواقع والمأمول، وإصلاح المحليات في إطار العلاقة بين المواطن والحكومة، وسبل تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة..،وفي كل هذه القضايا لم تكن هناك منصات عالية يتحدث منها الاساتذة إلي جمهور يسمع، ولكن كان هناك ورش عمل يشارك فيها الجميع بالرأي، وصالونات ثقافية يتبادل فيها الشباب الراي حول مشكلات وطنهم، وجلسات حوار بناء حول عدد من مشاكل مصر يشارك فيها كل أطراف القضية، ونظم محاكاة جديدة يتقمص فيها الشباب أدوار الحكومة في ضوء رؤيتهم لاوجه قصور الأداء الحكومي وثغراته ودروسها المستفادة، بما أحال المؤتمر إلي كيان تفاعلي ينبض بالحركة والحياة،الشباب هم مادة المؤتمر ومحتواه، وهم المنتجون والمستهلكون، وهم المنظمون والحضور، وهم ايضا صانعو فواصله الترفيهية يقدمون وسط فقرات المؤتمر وجلساته أغنيات ناعمة تفيض عذوبة ورقة تنبض بإيقاع راقص تضبط نغماته موسيقي عصرية من صنع هؤلاء الشباب.
ولم يكن ما يهم بالدرجة الأولي في جلسات الحوار وورش العمل وصالونات النقاش صواب آراء الشباب او خطأها فبعض من آراء هؤلاء الشباب لم يكن ناضجا بالقدر الكافي،كما ان بعض صور المحاكاة التي حاولت ان تعالج قصور الاداء الحكومي لم تقدم جديدا، لكن الاهم من ذلك كله هو حالة الحماس الشديد التي صاحبت المشاركة وحجم الجهد الذي بذل في دراسة هذا العدد الكبيرمن القضايا، ومدي التزام الأوارق البحثية بالنهج العلمي، والالتزام المسئول بالرؤية الموضعية في صياغة المشكلات وحلولها، ومدي الاستعداد لقبول الرأي الآخر إن كان معارضا، وحجم الالتزام بروح الفريق من جانب 500 شاب هم الدفعة الأولي من البرنامج الرئاسي لتأهيل القيادات الشابة لتولي المسئوليات القيادية في المستقبل، شاركوا في هذا المؤتمر ضمن ثلاثة آلاف شاب تمت دعوتهم من جميع المحافظات، وفي كثير من جلسات المؤتمر التي تعرضت لقضايا مهمة كان رئيس الجمهورية يحرص علي الحضور ليستمع ويعلق ويناقش ويقدم ملاحظات في بساطة وصدق، ويعلن عن قرارات مهمة لعل اهمها قراره بتشكيل لجنة لمراجعة مواقف الشباب الذين لايزالون في السجون علي ذمة قضايا يتعلق معظمها بالتظاهر والحريات.
والحق ان المؤتمر الأول لشباب مصر يكاد يكون مؤتمرا تجريبيا، لم يقصد منه حل اي من مشكلات مصر الاساسية، لأن هدفه المحدد هو مخاطبة مشكلات شباب مصر وكيفية إدماجهم في حياة الوطن السياسية والعملية، إلا ان بشائر النجاح التي احاطت بالمؤتمر الأول دفعت رئيس الجمهرية إلي عقد هذا المؤتمر بصفة دورية، مع نوفمبر من كل عام..، والاكثر دلالة علي نجاح مؤتمر شرم الشيخ دعوة الرئيس إلي عقد مؤتمر مصغر للشباب كل شهر بهدف متابعة تنفيذ توصيات المؤتمر العام والإعداد للمؤتمر المقبل..، وذلك يعني ان مصر وجدت الحل الامثل والصحيح لمشكلة اغتراب شبابها، وبات في وسعها ان تستعيد هذا الشباب الذي يشكل نسبة تقرب من 60%من سكان مصرإلي احضانها، وتربطه إلي لحمة الوطن بعد اغتراب طال عقودا، لأن الدولة اصمت أذنها طويلا عن متطلبات التغيير استجابة لتحديات عصر جديد!، ولم تفطن إلي اهمية ان تستجيب لمطالب شبابها، وان تحسن الحوار معه بديلا من المواجهة وتمادت في الرفض إلي حد كاد يمزق نسيج الوطن، ويباعد بين اجياله، وينذر بفوضي العنف والخروج علي القانون، ويفصل شباب الأمة عن باقي أجيالها، وما من شك ان استعادة شباب الامة بكل أطيافه المؤيدة والمعارضة، إلا الذين علي أيديهم آثار دماء مصرية او ارتكبوا جرائم لاتغتفر في حق وطنهم، وبناء جسور جديدة من الثقة المشتركة بين الشباب والحكم، يضاعف من قوة الدولة المصرية ويزيد تماسكها ويعيد لها هيبتها بين الأمم.
ومع ذلك أضاء مؤتمر شرم الشيخ عددا من المشكلات المهمة والحيوية توافق المؤتمر علي خطوطها الاساسية:
اولاها مشكلة الإعلام، لان جوهر وظيفة الإعلام كما وضح في مناقشات المؤتمر العلنية ليس قسمة الأمة بين المؤيدين والمعارضين،ولكن تعزيز سبل الحوار الوطني بما يجعل المؤيدين والمعارضين في خدمة الصالح الوطني العام، ويجمعهما في بنيان وطني قوي عند الشدة وفي الأزمات وساعة مواجهة عدوان الخارج وتآمره..،واظن ان النقاش الواسع الذي احتدم حول قضية الإعلام في المؤتمر أوضح بجلاء كامل ان هناك شروطا مهنية واساسية لاغنى عنها ولاغني التفريط فيها بدعوي حرية الرأي والكلمة، اهمها الالتزام بصدق الخبر ونزاهة الرأي والحفاظ علي السرائر،ورفض كل صور التعميم المخل، وعدم التسرع في الاتهام دون دليل، والارتقاء بثقافة المجتمع وذوقه واخلاقياته، ومراعاة قيمه والحفاظ علي وحدته وتماسكه.
وثانيها ضرورات التعجيل بإصلاح اقتصادي ومالي يواجه مشكلات الاقتصاد الوطني المتراكمة منذ عقود دون حلول شجاعة، تعالج جوهر المرض وليس عرضه، كي تعود مصر مرة اخري دولة جاذبة للاستثمارات الداخلية والعربية والاجنبية التي تشارك في بناء مشروعات جديدة، تهيئ فرص العمل الجاد لاكثر من 700ألف مواطن مصري جميعهم من الشباب يدخلون سوق العمل كل عام،بينما تقل مدخرات المصريين عن الحد الادني الذي يسمح بتدويرعجلة الاستثمار والاقتصاد الوطني!،وضرورة سرعة توحيد سعر الصرف مهما تكن مصاعب هذه المشكلة ومتاعب آثارها الجانبية، لان وجود سعر بين للعملة الأجنبية، سعر في البنوك وسعر آخر في السوق السوداء، بينهما هوامش واسعة يضر الاقتصاد الوطني علي نحو فادح ويستنزف قدرته، إضافة إلي ضرورة زيادة حجم الصادرات المصرية لمعالجة الخلل الضخم في الميزان التجاري، لأننا نشتري باكثر مما نبيع ثلاث مرات، ورفع معدلات النمو إلي نسب تتجاوز 7% علي الاقل لسنوات متصلة، كي تتمكن من مواجهة مشكلات البطالة والتضخم ويتم تحسين جودة حياة كل فئات المجتمع المصري بتوسيع فرص الرزق والعمل.
وثالثها اهمية التعجيل بتطوير التعليم المصري وربطه بسوق العمل واحتياجاتها، لانه بينما تعاني مصر من فائض ضخم في خريجي الكليات النظرية، تعاني في الوقت نفسه نقصا فادحا في عمالتها الفنية المتخصصة،إلي حد أن هيكل العمالة المصرية يكاد يفتقد علي نحو كامل لطبقة الفنيين الذين هم عصب النهضة والتنمية،وأهم أدوات التكنولوجيا الجديدة التي اصبحت طرفا مهما في عملية الانتاج..،وما من حل لهذه المشكلة سوي ثورة تعليمية جديدة تعيد إلي التعليم الفني إعتباره، وتقلب المعادلة الراهنة التي جعلت الغلبة للتعليم النظري الذي يضم 80%من التلاميذ والطلاب!، بينما يقف التعليم الفني عند حدود20%،اغلبها لايرقي إلي مستويات التعليم الفني الحديث التي تحتاجها سوق العمل بعد أن اصبح الابتكار والعلم والتكنولوجيات الحديثة اهم عوامل الانتاج، تفوق اهميتها اهمية رأس المال لانها تحقق للإنتاج الوفرة والجودة وقلة التكاليف.
لم يخترع مؤتمر شرم الشيخ هذه الحقائق التي تشكل جوهر مشكلاتنا الاساسية، والتي ربما يكون معظمها معلوما تكرر تأكيده مرات ومرات لكن ما حدث في شرم الشيخ يظل حدثا مهما وفريدا لانه مكن شباب مصر من ان يكتشفوا بأنفهسم هذه الحقائق ويدركوا اهميتها وخطورتها من خلال أوراقهم البحثية ومناقشاتهم الثرية داخل قاعات المؤتمر وصالونات النقاش والحوار وورش العمل المختلفة..، ولهذا السبب سوف يبقي طويلا أثر هذا المؤتمر في عقول ونفوس هؤلاء الشباب الذين شاركوا في اعماله اوتابعوها، لان ما يبقي عالقا في ذهن الانسان دون غيره هي الحقائق التي يكتشفها الانسان بنفسه ويلمس عن قرب آثارها وضروراتها.
واذا كان واحدا من فضائل مؤتمر شرم الشيخ، ان مصر عرفت الطريق الصحيح لاستعادة شبابها من الضياع واحتوائهم في أحضانها من جديد، وإدماجهم في حياتها السياسية والعملية، فان القيمة الحقيقية المضافة التي يحققها مؤتمر شرم الشيخ تبقي رهنا بقدرة الدولة علي ان تحقق تكافؤ فرص العمل والنجاح بين شباب مصر، بحيث يسهم الجميع في كل المشروعات القومية الكبري والمشروعات المتوسطة والصغيرة دون تمييز عقائدي او حزبي او سياسي اعتمادا علي صدق المنافسات الشريفة، لان المطلوب الآن تغيير افكار شباب مصر إلي الافضل وتأصيل انتمائهم إلي هذا الوطن، وليس اقامة مؤسسة سياسية للشباب تعيد لنا دور منظمة الشباب خلال ستينيات القرن الماضي التي ربما لايكون لها الأولوية الآن حرصا علي ضرورات توحيد الجهد الوطني.
وكما تغيرت مفاهيم الدولة والحكومة في مؤتمر شرم الشيخ ورفعت وصايتها الأبوية عن الشباب كي يتمكن من ان ينطلق ويبدع، تغيرت أيضا كثير من مفاهيم الشباب ليصبح أكثر اعتمادا علي الجهد الذاتي، واكثرالتزاما بالنظرة العلمية، واكثر شجاعة في المباردة، والاكثر استعدادا لسد الفجوة بينه وبين جيل الآباء، وأكثر ايمانا بان العمل والعمل وحده هو السبيل الصحيح لبناء وطن حديث مستقل الإرادة، ودولة مدنية قانونية تؤمن بالمشاركة والحوار وتخلو من عوامل القهر والاستبداد، وهذا ما لمسناه بالفعل من خلال التغيير الجذري الذي طرأ علي شخصيات وعقول أكثر من 500شاب يمثلون الدفعة الأولي للبرنامج الرئاسي لتأهيل القادة الجدد علي مهارات القيادة والحكم الرشيد.