الأهرام
أحمد أبو الدوح
الحريرى وعون ومصير لبنان
من بين عدة دول شاهدة على التنافس المحتدم بين السعودية وإيران فى المنطقة، لبنان هو أول ميدان يبدو فيه أن الصراع حُسم بين الجانبين.

التفاهم الذى حدث بين سعد الحريرى والجنرال ميشال عون انقلاب للعبة القوى فى لبنان. كأن «المعادلة الصفرية» التى كانت تحكم المسرح السياسى هناك بين السعودية وإيران، انتهت الآن.

كل ما تبقى من هذه المعادلة هو اتفاق الطائف الذى لم يسقط بعد، لكنه بقى على الحافة.

تنازل الحريرى عن تمسكه بترشيح سليمان فرنجية لقصر بعبدا، «وضحي» حزب الله فى المقابل بقبوله فى السراي. قد يبدو الاتفاق، الذى سيتولى بموجبه الحريرى رئاسة الحكومة وعون رئاسة الجمهورية، صفقة مربحة للجميع، لكن الواقع غير ذلك تماما.

الاتفاق الأخير هو خط النهاية لماراثون يرى فيه البعض أن السعودية انسحبت قبل الوصول إليه. يدرك أعضاء تيار المستقبل، وكل قوى 14 آذار هذه الحقيقة، ولا يستطيعون هضمها.

فى المقابل تعيش قوى 8 آذار نشوة انتصار، فى لحظة انتصار حقيقي. ما بات واقعا اليوم هو أن أحدا فى لبنان لم يعد لديه أى شك فى أن اتفاق الحريري-عون هو ثمن ترسيخ التأثير الإيرانى فى البلد.

لم يعد الحريرى الورقة الرابحة تماما للسعودية فى لبنان. أثبت الشاب الخجول أنه قدم كل ما عنده، ولم يعد فى جعبته المزيد. فهم الكثيرون فى السعودية أن الاستثمارات التى تم ضخها فى هذا البلد الصغير كانت خاسرة فى أغلبها. شركة (سعودى أوجيه)، المملوكة لعائلة الحريري، هى مثال مصغر لإختيار السعودية سحب مقاربتها تدريجيا فى لبنان.

لم تعد شركة المقاولات الضخمة تعامل على نحو خاص من قبل السلطة. تأثرت الشركة كثيرا بالتراجع الاقتصادى الذى تشهده السوق السعودية وخفض الإنفاق على وقع تراجع أسعار النفط.

فى السابق كانت «سعودى أوجيه» تحظى بدعم حكومى لأسباب سياسية، أهمها أنها العمود الفقرى لأنشطة تيار المستقبل الذى يتزعمه الحريرى فى لبنان. اليوم لم تعد «سعودى أوجيه» ولا لبنان برمته على قائمة أولويات السعودية. فى عقيدة الجيل الجديد الذى صعد للحكم فى الرياض، لبنان معركة استنزاف خاسرة. باتت الكثير من الدوائر السياسية تتساءل اليوم: وماذا سيحصل لو سقط لبنان بكامله فى يد حزب الله وإيران؟ ما هى الخسائر التى من الممكن أن تتكبدها السعودية، أكثر من ذلك؟

فى الحقيقة الخسائر لن تكون شيئا يذكر. لكن الحقيقة الأوضح هى أن عودة الحريرى إلى رئاسة الحكومة هى مرحلة أولى تسبق الاستسلام النهائى فى مرحلة لاحقة. «تضحية» حزب الله بقبول الحريرى رئيسا للحكومة هى تضحية مؤقتة. الحزب الآن فى مرحلة زراعة البذور والانتظار حتى موعد الحصاد.

ما يهم الحزب أكثر من أى شيء هو الحفاظ على «الشيعية السياسية، المتمثلة فى تحالفه مع حركة أمل بقيادة نبيه بري. تماسك الطائفة بالنسبة للحزب عامل وجودى غير قابل للعبث أو المخاطرة. لكن لا تسير الأمور فى لبنان بهذه السهولة. لا مفر من المطبات السياسية والتعقيد.

كان رفض نبيه برى لاتفاق الحريري-عون عودة خطوة إلى الوراء، فى طريق هدف انهاء اتفاق الطائف، الذى يسعى الحزب بكل قوته للوصول إليه.

تهديد برى بأنه سيصوت حتما ضد رئاسة عون للجمهورية بث الرعب فى حسن نصرالله، الذى يعلم ما يريده جيدا. لا ينظر حزب الله إلى فترة رئاسة عون للبنان سوى باعتبارها مرحلة انتقالية يتم فى نهايتها إعادة صياغة نظام المحاصصة السياسية القائم على أسس اتفاق الطائف. لا يقتنع حزب الله بأن رئاسة «الشيعة» للبرلمان كافية بأى حال. يريد الحزب تعيين نائب للرئيس يكون مسئولا عن الملف الأمني، ويكون على الدوام شيعيا. يعنى هذا تحويل حزب الله إلى مظلة شرعية لجميع قوى الأمن فى البلاد، ويعنى أيضا تخلى الولايات المتحدة (التى تعتبر الحزب منظمة إرهابية) عن دعم الجيش اللبناني. بهذه القسمة الجديدة تصبح رئاسة البلد للمارونيين، والأمن للشيعة، ورئاسة الحكومة للسنة.

وحتى وإن حصل هذا، ما هو التغير الجذرى الذى سيحدث فى الشرق الأوسط بكل ما يعانيه الآن؟ هل ستشهد المنطقة حلولا حاسمة لأزماتها الدامية بمجرد انتخاب عون رئيسا فى لبنان؟ هل سيتوقف السنة والشيعة عن التمترس خلف حصون شاهقة من الكراهية والعداء الطائفي؟

العائد الطبيعى على المنطقة من هذا الحراك النشط فى لبنان هو لا شيء. أثبتت مقولة «قوة لبنان فى ضعفه» التى تشكل عقيدة حاكمة لكثير من السياسيين هناك عدم دقتها. عاد البلد الصغير إلى حجمه الطبيعى بمجرد انكشاف الغطاء السعودى عنه. كل ما سيؤدى إليه هذا الحراك هو أن إيران ستؤكد هيمنتها على لبنان، فى حين ستركز السعودية على ما هو أهم. منذ صعود الملك سلمان بن عبدالعزيز للحكم فى السعودية فى مطلع 2015، احتل اليمن مكان لبنان فى قائمة أولويات الرياض. أغلب المخصصات التى كانت جاهزة للاستثمار فى لبنان تحولت تلقائيا إلى اليمن بمجرد بدء التحالف العربى بقيادة السعودية ضرب الحوثيين هناك.

هل كان لبنان فى حاجة فعلا إلى رئيس الآن؟ هل 29 شهرا من الفراغ الرئاسى ليست كافية للانتظار إلى حين نضج شكل من أشكال التوافق بين القوى السياسية المتصارعة فى البلد؟ هل سيحل وجود رئيس لا يحظى بصلاحيات تنفيذية مشكلة ترهل المؤسسات والقمامة وانقطاع الكهرباء واحتواء مليون ونصف المليون لاجئ سوري؟

الإجابة طبعا لا. إذا كان هناك من عائد لاتفاق الحريرى عون، فسيكون اضطرابات سياسية واحتقانا طائفيا وصراعا سيؤجل حتما تشكيل الحكومة، أو يطيل أمد مشاورات تشكيلها. هزيمة الحريرى الكبرى أمام حزب الله وعون لن تمر مرور الكرام، وسيدفع لبنان ثمنها ضمن فواتير كثيرة لم يأت وقت سدادها بعد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف