محمد جبريل
كارثة السيول.. تجربة عُمانية
كما اعتدنا في المشكلات التي تطالعنا في مطلع كل شتاء. اجتاحت السيول مدناً وقري. قتلت. وأصابت. ودمرت. وتعالت التصريحات المطمئنة بأن التعويضات المناسبة ستصرف لكل المتضررين!
إذا كان هذا هو ما اعتدناه عقب هطول الأمطار والسيول. فلعلنا اعتدنا كذلك مظاهر الإهمال والتسيب واللا مبالاة التي تفصح عن نفسها في تجدد الخطر. تتعدد المقترحات والخطط "المدروسة" لمنع تكرار الكارثة. لكن النسيان يلغي التنبه الوقتي. وتعود ريمة إلي عادتها القديمة.
أقمت في سلطنة عُمان ما يقرب من الثماني سنوات. تعرفت فيها إلي مظاهر الحياة العُمانية. في مقدمة ما اجتذب اهتمامي نظام الأفلاج الذي يمثل شرياناً رئيسياً للحياة العُمانية. بل إن إنشاء القري والمدن علي امتداد السلطنة بدأ ببداية حفر الأفلاج وجريانها علي سطح الأرض. أشبه ـ مع الفارق الهائل ـ بما أحدثه جريان النيل في الصحراء المصرية. بتحولها إلي أراض زراعية مخصبة بالحياة.
الأفلاج مفردها فلج. و هو نظام متكامل. محوره قناة مائية لها مصدر من فجوة في مكان مرتفع في طبقة صخرية. تجمع المياه الجوفية. أو مياه العيون والينابيع الطبيعية. أو المياه السطحية. أو تهبط الأمطار من قمم الجبال وبطون الوديان تجمعها الأفلاج إلي مسافات طويلة. بحيث تستخدم في الري. وفي الأغراض الأخري. تصل المياه ـ بواسطة الفلج ـ إلي مراكز التجمع العمراني. يأخذ الناس حاجتهم من المياه. سواء بالشرب. أو بتوزيعها علي الزراعات. وفق نظام دقيق ألفه العُمانيون منذ مئات السنين.
لذلك فإن عُمان لم تشهد ـ عبر تاريخها ـ موجات الهجرة التي شهدتها الجزيرة العربية.
لا أدعو إلي تطبيق التجربة العُمانية. فهي تطبيق لاحتياجات البيئة الصحراوية التي تعتمد في مواردها علي مصادر غير نهرية. بعكس النيل وما يمثله من مورد دائم صاغ الحياة علي أرض مصر. بداية من نشوء العمران علي الضفتين. وتكوين الدلتا. واستمراراً في اقامة أقدم الحضارات.
قيمة نظام الأفلاج ـ في تصوري ـ انه مثل لوسائل الحفاظ علي مصادر المياه ـ كم نحتاج اليه في ظل تهديدات سد النهضة ـ فلا تهدر. أو تتحول إلي خطر يبتلع البشر. ويغرق المدن والقري. وهو ما لم تختبره الأجيال الحالية من المصريين. بينما تتذكر أجيال ما قبل إنشاء السد العالي تأثيراته المدمرة في معظم القري والمدن المصرية.
نستطيع أن نفيد من التجربة العُمانية في تطويع مصادر المياه. بحيث لا تهدر. ولا تتحول سيولاً مدمرة تبتلع كل شيء.
ليس المطلوب أن نحاكي تطبيقات الأفلاج العُمانية. انما المطلوب أن نحول دون تكرار ما حدث. تقوم الدنيا عقب كل كارثة. لكنها تقعد بانقضاء الأيام. فتظل المقترحات والخطط حبيسة الأدراج. حتي نتذكرها في كارثة جديدة.