المساء
محمد جبريل
ع البحري - الأبــنــــــــــودي
التقيت عبدالرحمن الأبنودي ــ للمرة الأولي ــ في رابطة الأدب الحديث. كانت ملتقي حقيقياً لمثقفي الستينيات. عشرات المبدعين والنقاد من مختلف الأجيال. احتضنتهم قاعة رابطة الأدب. ملأوا الكراسي. ووقفوا خلف طاولة الإلقاء. ولصق الجدران.
تواصلت صداقتنا. زارني في شقة صغيرة كنت أستأجرها بشارع ابن الرشيد القريب من سوق روض الفرج قبل أن يخلي موضعه لقصر الثقافة.
قرأت له بعض محاولاتي. تحدث فيها عن لقمتين وسيجارة بلمونت هما كل ما كان يتمناه الشاعر الشاب الذي لم تكن خطواته قد انتظمت في دروب القاهرة.
أستأذنك في أن أعيد بعض ما رويته في كتابي "أيامي القاهرية" الذي أصدرته هيئة قصور الثقافة. عن تلك الأيام البعيدة. المتعبة. الجميلة.
انتقلت إلي شقة في شارع مواز لشارع ابن الرشيد. بالقرب من مزلقان النجيلي ــ كانت لافتات شقة للإجار أكثر من لافتات أطباء هذه الأيام؟
خمس حجرات واسعة. لم أشغل منها إلا حجرة واحدة. ضمت سريري ومكتبي ومكتبتي. أما بقية الحجرات فكانت علي السداح حتي المطبخ لم أكن ألجأ إليه إلا لشرب كوب ماء. فقد كان طعامي طيلة النهار من بوفيه المساء.
يقدم لنا عم منصور الوجبات الثلاث. ساندوتشات بالأجل. وربما أقرضنا نقوداً. حتي نتسلم المكافأة فيحصل علي معظمها. ويتكرر الأمر في الشهر التالي. وهكذا.
قد تبدو كلمة "شقة" غير مناسبة لمقتضي الحال. لكن إيجار الشقة المتوسطة كان يتراوح بين جنيهين وخمسة جنيهات.
ساعدني في نقل الأثاث إلي هذه الشقة صديقي الشاعر عبدالرحمن الأبنودي. كان مجنداً بالقوات المسلحة يلقي محاولاته الأولي في أمسيات رابطة الأدب الحديث. وينشئ صداقات. أخبرته برغبتي في الفرار من محاصرة الأسرة صاحبة بيت حجرة السطح "ملمحها الأهم كلمات الأب القاسية. اللامبالية!" لا أدري من أين جاءها التصور أن مواردي المادية تكفل لي الزواج. فعرضوا ابنتهم ولم أعقب. فأعتبر وا السكوت علامة الرضا!
الواقع أني لم أكن امتلك ثمن الوجبة التالية. ولا كنت أعرف أين تمضي بي الظروف القاسية. وكم كنت أغالب الحزن وأنا أحمل كتباً ومجلدات رائعة. حملتها إلي القاهرة من مكتبة أبي. أبيعها علي سور الأزبكية لإسكات صراخ المعدة. أو لتكملة المتبقي من إيجار الحجرة.
وافق الأبنودي علي ضرورة تركي الحجرة. زاد. فاقترح أن نوفر تكاليف النقل. ننقل أثاثي "!!" معاً. وما كنا سندفعه للشيال. نستطيع أن ننفقه علي عشاء شهي!.
قرأت للأبنودي ــ في تلك الليلة ــ قصة اسمها المكنة. وقرأ لي بعض قصائده واستمعنا ــ بالفعل ــ وجبة عشاء طيبة.
كانت الشقة واسعة. ولعلها كانت أنسب الشقق لكي أقيم فيها فترة أطول. لكن الشعور بما هو أقسي من الوحدة كان يتملكني والجدران تعزلني عن العالم الخارجي. مساحات واسعة. باردة. خالية. تحيطني بأسوار العزلة.
أخي عبدالرحمن الأبنودي: أفتقدك!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف