احمد المسلمانى
أيديولوجيا الغموض.. نقد خرافة الحكومة السريّة للعالم
( 1 )
كلما التقيتُ طلاب الجامعات وشباب القوى السياسية.. أجدُ عددًا منهم يتحدَّث عن الحكومة السرية التى تحكم العالم. وبدلاً من أن يكون هذا الحديث طريقًا للمواجهة والتحدّى.. أصبح طريقًا للإحباط والعدميّة.. والاستسلام إلى «راحة اليأس».
لقد اتّسعت مساحة الإيمان بهذه الخرافة.. لتشمل قطاعات متنوعة من المتعلِّمين وأنصاف المثقفين.. وبات البعض يتحدث عن «الدولة العميقة» التى تحكم البشريّة، وعن أولئك الكبار الذين يمتلئون ثراءً وقوةً.. ويديرون «أيديولوجيا الغموض».
إنهم - حسب الخرافة السائدة – يديرون العالم عبْر نظاراتهم السوداء، وسياراتهم الفارهة.. ومخابئ اجتماعاتهم التى تحيطها حراساتٌ أسطورية وأسوار إلكترونية.. حيث لا يمكن لأحدٍ أن يعرِفَ أو يقتَرِب.
( 2 )
ثمة كتب ومقالات، وبرامج ومواقع.. كلها تروِّج لهذه الخرافة.. حتى تمدَّدت عقيدة «اللا حيلة» و«اللا إرادة» و«اللا قدرة» فى مواجهة أناسٍ لا قِبَل لنا بهم، ولا طاقة لنا عليهم. وعلى الرغم من أن الدين الإسلامى يقوم على التوحيد، وعلى نزع المشيئة من غير الله، وعلى استحالة أن يملك أحد من البشر أو كل البشر مجتمعين قدرةً واحدةً من قدرات الله.. إلا أن ملايين المسلمين أصبحوا مؤمنين بقدرة هؤلاء الكبار الغامضين على تحديد مسار العالم وتقرير مصير البشر.
( 3 )
لم يدرك أحدٌ من المؤمنين بخرافة الحكومة الخفيّة للكوكب.. أنه بذلك قد يدخل فى دائرة الشرك بالله.. ذلك أنَّه يُشرِك مع الله فى مُلكِه حفنةً من البشر، وأنّه يؤمن بأن بعض مُلكِ الله ليس لله.. وأن مصائر الأرض قد تم اختطافها من خالقها لصالح مجموعة من الأثرياء الذين انتزعوا لأنفسهم إدارة الحياة الدنيا!
( 4 )
تتحدث خرافة الحكومة السرية للعالم.. عن المحفل الماسونى الذى يدير الكون، وعن جماعة الجماجم والعظام، وجمعية الحديقة البوهيمية، ونادى بيلدربيرج.. وعن الـ (13) عائلة التى تحكم القارات الستّ.
إنها خرافة تأسيس عقيدة جديدة: آلهةٌ مع الله!
وحين انعقد اجتماع بيلدربيرج فى ألمانيا يونيو 2016.. كتب كثيرون عن الشبهات وراء الاجتماع الذى يضم الحكومة السرية للعالم: لماذا كان الاجتماع سريًّا؟.. لماذا تمّ إعلان منطقة الاجتماع منطقةً مغلقةً؟.. ولماذا كان هناك (400) رجل شرطة فى حماية الاجتماع؟.. ولماذا تمّ منع الإعلام من الدخول أو التغطية؟.. ولماذا حضر كل هؤلاء الكبار اجتماعًا سريًّا: رئيس CIA السابق وهنرى كيسنجر وهيلارى كلينتون وجون كيرى، ووزير الدفاع الألمانى، ونجم المال الأمريكى روكفلر، ورئيس المخابرات البريطانية السابق، ورئيس بورصة فرانكفورت.. ورؤساء شركات سيمنز وإيرباص وأكبر شركة تأمين فى العالم؟
ثم توالت التحليلات: إن اجتماع أمثال هؤلاء فى أول مرة بنادى بيلدربيرج فى عام 1954.. قد قرر تأسيس الاتحاد الأوروبى.. وهو الاجتماع الذى تقرر فيه تأسيس «فكرة الغرب».. من أوروبا وأمريكا الشمالية.. وتحدث آخرون عن اجتماع عام 2002 الذى تم فيه اتخاذ قرار غزو العراق.. وعن أن جميع أحداث العالم هى من صنع هؤلاء.
( 5 )
لا تخضع التحليلات السابقة لعِلم السياسة، كما أنّها لا تخضع لأىّ منهج علمى فى البحث والتحليل، ولا تعدو أن تكون مجرد تعبير عن قلق أو استياء.. ولا تزيد.
الحقيقة ببساطة أن هناك صراعًا دوليًا على الثروة والنفوذ.. وأن هذا الصراع - ببساطة أيضًا - ليس وليد العالم المعاصر.. بل أساس فلسفة التاريخ وحركة العالم.
الحقيقة أيضًا.. أن الدول والأحلاف تعتمد أُطُرًا سريّةً فى العمل إلى جوار الأطر العلنية، وأن الأطر السريّة هى أساس عمل أجهزة الاستخبارات.. وليس فى هذا أيُّ مفاجأة تستدعى الانبهار أو التأويل.
والحقيقة الثالثة.. أن الحكومات والمخابرات لا تعمل وحدها.. وإنما تعمل بمساندة مجتمعية واسعة.. وأولى تلك المساندات وأعظمها وأقواها هى مساندة النخبة. النخبة هى عماد المجتمعات الحديثة.. وإذا ما كانت نخبةً متميزةً ومسؤولة.. كان ذلك من حظ الدولة، وإذا ما كانت النخبة فاشلة وحاقدة وجاهلة.. فإنه لا أمل فى حكومةٍ أو سلطة.