عباس الطرابيلى
واسمها: وزارة الثروة المائية!
الماء.. هو أغلى ما فى الوجود. نبحث عنه. وننفق ولا نبخل للحصول عليه.. ثم نهدر ملايين الأمتار المكعبة.. وتلك هى حقيقة مأساة السيول الأخيرة.
فنحن نواجه حرباً شرسة فى الداخل.. وفى الخارج. مع الأشقاء. أو مع الإخوة الأعداء فى أفريقيا.. وننفق ملايين الجنيهات للبحث عنه.. بحفر الآبار بحثاً عنه ولو على عمق آلاف الأقدام.. ونصرف على تحلية مياه البحر المالحة.. بل نتحمل أعباء إدارة مياه الأنهار. تماماً كما نواجه إسراف معظمنا فيما تحت أيدينا من مياه.. فإذا جاءت المياه هبة من الخالق العظيم لم نعرف كيف نستثمرها.. ونحسن استخدامها.. تماماً كما يحدث عندنا من سيول. وفى أقل من ساعة واحدة، سقطت على جبال البحر الأحمر 120 مليون متر مكعب - هكذا تقول الأرقام - وأراها أكثر من ذلك بكثير.. ولكننا لم ننجح إلا فى التقاط وتخزين مليون و800 ألف متر فقط. وضاع الباقى فى البحر الأحمر نفسه شرقاً.. والقليل انطلق فى مخرات السيول ليدمر ويضيع فى الصحراء.. وكل مجهودنا ألا ندفع هذه المياه بعيداً.. بأقل التكاليف!! أما فى الوادى الجديد فقد سقطت مياه يقدرها البعض بـ45 مليون متر، وهى تؤدى إلى الخزان الجوفى النوبى المصرى الذى يروى زراعات الواحات المنتشرة غرب مصر.
وإذا كان أبناء وسط وشمال سيناء يفرحون بسقوط هذه الأمطار.. إلا أنهم يبكون إذا زادت كمياتها وتحولت إلى سيول كما يحدث فى وادى العريش.. إذ تندفع هذه المياه إلى البحر المتوسط، وتضيع هناك.. ولهذا نسأل: كم مليون متر مكعب ضاعت علينا.. وكم ثمنها.. وكم نتكلف مقابل المتر الواحد، أم ننتظر حتى تطالبنا إثيوبيا وباقى دول منابع النيل بسداد ثمن كل متر نحصل عليه من مياه النيل؟!.. وهذا سيحدث قريباً.. وتأكدوا من ذلك.. وهم هنا يقولون إنهم يدفعون ثمن البترول - وهو أيضاً هبة من الله - فلماذا لا يحصلون منا على ثمن مياه النيل؟.. منطق الأشقاء الأفارقة!!
هنا: هل نحاسب من تكاسل وترك ملايين الأمتار تضيع.. بعد أن تهدر وتدمّر ولم يقم ببناء السدود الكبيرة، أو سدود الإعاقة لنحفظ هذه المياه - فى خزانات فوق الأرض، أو نساعد على تخزينها تحت الأرض.. ثم نعود لاستعادتها عند الحاجة من خلال الآبار.. وهو ما خططنا لاستخدامه ولو أخيراً فى رى المليون ونصف المليون فدان فى مناطق بعيدة عن النيل.. وتركزت جل جهودنا على حفر الآبار وسحب مياهها، دون أن نعمل على تغذية المخزون الذى نحفر لنحصل على المياه منه.. طيب: وماذا لو نفد هذا المخزون.. أو هبط منسوب المياه فيه، بحكم السحب الجائر للمياه من هذا المخزون، دون حساب؟!
والمؤلم، أن الوزير المسؤول عن المياه قال إن الوزارة - فى العامين الأخيرين - قامت بمشروعات إنشاء عدد من السدود، بينما عمره نفسه فى الوزارة لم يتعد أسابيع قليلة!! وكيف وقد دخلنا عصر الفقر المائى ونتجه إلى عصر أشد قسوة، هو عصر الجفاف.. نهدر مياه الأمطار التى تتحول إلى سيول، وكل جهودنا تتركز فى تقليل ضررها دون أن نحسن الاستفادة منها!! أليس هذا هو الخطأ بعينه.. بل كيف تركنا الناس تبنى بيوتها.. بل مشروعاتها ومشروعات الحكومة، يبنون كل ذلك فى مخرات - أى مسارات وممرات - السيول، بحجة أن عشرات السنين مرت على آخر سيل.. دون أن يعلموا أن السيل قادم لا محالة.. وإن تأخر قليلاً!! ولماذا نعترف ونقول إن السيول فاجأتنا؟! كيف والوزارة اسمها: وزارة الثروة المائية.. والرى، أى مهمتها حماية وتدبير المياه.. وتأتى مهمتها الثانية، وهى الرى، فى المرتبة التالية وليس هذا هو معنى اسم الوزارة؟! هنا لابد من تغيير العقلية المصرية.. وأن نتحول من فكر تقليل أضرار السيول إلى فكر الاستفادة المثلى من هذه السيول.. أليس هذا هو معنى التفكير فى المستقبل؟!!
■ ■ وبالمناسبة.. كل الأنهار تنشأ من هذه السيول.. أمطاراً مباشرة.. أو ذوباناً للثلوج. ولقد طرت مرات عديدة فوق منابع معظم فروع وروافد النيل ورأيت من نافذتى بالطائرة الهليكوبتر الصغيرة - وعلى ارتفاع منخفض - كل مخرات السيول والنهيرات والروافد التى تستقبل المياه مندفعة من الأعالى إلى أن يصل إلى رافد صغير، وكيف وصفت هذه كلها بأنها مثل الأوردة والشرايين، بل الشعيرات الدموية، فى جسم الإنسان.. وهكذا تبدأ حكايات الأنهار.. ونحن فى مصر - عندما نطير فوق سيناء.. وفوق المنحدرات الغربية لجبال البحر الأحمر - نرى هذه «الأوردة» تندفع حاملة المياه.. بدلاً من الدم فى جسد الإنسان لتنطلق على هيئة سيول تدمر.. بينما هى عند غيرنا مصدر للحياة..
■ ■ وهل نترك كل هذه المياه تسيح فتتحول إلى بخار مرة أخرى.. أو تصب فى البحرين: المتوسط والأحمر.. وخليجى العقبة والسويس.. دون أن نستفيد منها؟.. وهل نخصم ثمن هذه المياه من رواتب المسؤولين الذين تركوا كل هذه الثروة المائية لتضيع؟!
■ ■ أعلم أن عندنا أولويات عديدة الآن.. ولكننى أرى أهمية الأولوية الأولى فى الحفاظ على هبة الله لنا من المياه.. حتى لا يعود شعب مصر ليتجه إلى بقاع أخرى بحثاً عن المياه.. فقد جاء السكان الأوائل لمصر.. لما وجدوا فيها مياه النيل.. فهل يهجرها سكانها بعد أن نعانى من نقص المياه.. الذى هو أصل الحياة. ولا نقول بمحاكمة المسؤولين.. ولكن بتوفير الإمكانيات التى تساعدهم على اصطياد كل نقطة مياه يرسلها لنا الخالق العظيم.. لا أن نهدرها ونتركها على شكل سيول لتدمر.. بدلاً من أن تعطينا سبل الحياة.