الأخبار
عبد الحليم قنديل
في انتظار القرار
ولا نريد لأحد، ولا من أحد، أن يصطنع تناقضا موهوما بين الحرية واعتبارات العدالة والقضاء

الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، والكرة الآن في ملعب الرئيس السيسي، والمطلوب ظاهر بغير شبهة التباس، وكشفت عنه مناقشات مؤتمر الشباب الأخير في شرم الشيخ، وقد لا يكون من جديد فيه، فقد طالبنا به لعشرات وربما لمئات المرات، ولم يعد يحتمل تأخيرا ولا تسويفا، ولا انتظارا لفحوص لجان تشكلت، وإن كان أمدها الزمني قصيرا معقولا، فالقصة ليست في اللجان، بل في الإرادة السياسية، وقد آن الأوان، إن لم يكن تأخر، والمطلوب ـ ببساطة ـ »تبييض السجون»‬، وإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المحتجزين في غير اتهام بالعنف والإرهاب المباشر.
ولا أحد عاقل يستهين بالمشكلات والعوائق، ولا بموجات التآمر ضد مصر من خارجها ومن داخلها، ولا بخطر الإرهاب الذي يهدد البلد، ولا بالأولوية الأمنية والقانونية لردع الخطر، وهو ما تحققت فيه خطوات لا بأس بها، فليس بوسع أي جماعة إرهاب أن تهزم مصر، وهزيمة الإرهاب قضية محسومة، ولا أحد يدعو للتسامح مع الإرهاب ولا مع جماعاته، وإنفاذ القانون في كل الأحوال مطلوب، ولكن دون أن نحقق للإرهاب هدفه في تمزيق المجتمع، ودون أن نخلط بين الإرهاب والسياسة، فمصر ليست مجرد أجهزة أمنية وإدارية، مصر مجتمع يحق له أن يتنفس بحرية، وأن تعلو أصواته المطالبة بالتطهير والتغيير الشامل، وخطر الإرهاب مما لا ينكره أحد، لكن الفساد في مصر أخطر من الإرهاب، فالإرهاب قد يقتل أفرادا وجماعات، لكن الفساد يقتل حيوية المجتمع كله، وينخر في بدن الدولة، ويسمم الأجواء العامة، ويبدد الأمل في النفوس، والفساد يعيش ويزدهر في الظلام، وتخاف خفافيشه من نور الحرية، ومن أي تنفيذ حقيقي ناجز لمطالب الثورة اليتيمة، ولا سند للثورة غير أهلها وشبابها، وغير الممارسة السياسية الطليقة من كل قيد يفرض، والمطلوب وضع خط أحمر فاصل بين الإرهاب والسياسة، فالإرهاب عدو النور والحرية تماما كخفافيش الفساد.
وقد اعترف الرئيس السيسي مرارا بوجود مظالم هائلة في السجون، وأصدر قرارات عفو عن مئات من الشباب المحبوسين، لكن الخطوات المقدرة بدت محدودة الأثر، ففي مقابل مئات يخرجون إلي الحرية، كانت آلاف جديدة تذهب وراء الأسوار، وفي سياق عشوائي تماما، يكاد يصم السياسة نفسها بتهمة الإرهاب، ويجرم ويحرم كل رأي يبدو معارضا، وهو ما كان سببا في مأساة كبري تتفاقم، وتكاد تدهس مشاعر وأعصاب قرابة المليون مصري، وليس في الرقم أدني مبالغة، فالحزن والهم يقيم في بيوت مليون مصري، هم أقارب وأصهار عشرات الآلاف من الشباب المحتجزين، بافتراض أن كل شاب مسجون علي علاقة قرابة بخمس أسر علي الأقل، ناهيك عن تحطيم حياة ومستقبل الشباب، وتحويل السجون إلي مفارخ لنزعات الإنتقام والإرهاب، ومضاعفة معدلات الكراهية والاحتقان السياسي والاجتماعي، والخدمة المجانية لجماعات الإرهاب، بإضافة رصيد احتياطي هائل من القمع الأعمي.
ولا نريد لأحد، ولا من أحد، أن يصطنع تناقضا موهوما بين الحرية واعتبارات العدالة والقضاء، فالقضاة لا يحاكمون ولا يحكمون بقوانين من صنعهم، بل الذي يصدر القوانين هو سلطة التشريع، وقد صدر قانون التظاهر سيء السمعة في غيبة المجلس التشريعي، أصدره رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور، وجري الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية، ولاتزال المحكمة تنظر الطعون إلي الآن، ومع توقعات بإلغاء أكثر مواد القانون غلظة وشذوذا، وهذه المواد نفسها ـ مع غيرها ـ هي التي صنعت المأساة، وكانت سببا مباشرا في الحكم بسجن عشرات الآلاف من الشباب، ناهيك عن آلاف أخري لاتزال قيد الاحتجاز بلا محاكمة إلي الآن، فالقصة أكبر من أحكام مغلظة صدرت، والعلة الأصلية في القانون الظالم لا في القاضي الملزم بالقانون، وقد تعهد الرئيس السيسي بإعادة النظر في قانون التظاهر، وإعداد تشريع جديد يعرض علي مجلس النواب، وقد يستغرق الأمر شهورا طويلة، يظل فيها سيف الظلم معلقا علي رءوس ورقاب الشباب المحبوسين، وهو ما يلزم معه التصرف باستقامة وسرعة، وربما مناشدة المحكمة الدستورية في التعجيل بقرارها في الطعون المعروضة عليها، ومناشدة أجهزة التحقيق بالإفراج عن المحبوسين احتياطيا علي ذمة قانون التظاهر الظالم، والتعجيل باستخدام صلاحيات الرئيس في العفو عن المحكومين بالقانون الظالم، وإصدار قانون »‬عفو شامل» يعرض علي البرلمان للتصديق العاجل، ولا يستثني سوي المحكومين والمتهمين في قضايا العنف والإرهاب المباشر.
نعم، المطلوب تصرف عاجل شامل، وليس عقد لجان، وإجراء فحوص، قد يستبد بها الهوي، أو تحكمها الاعتبارات الأمنية الضيقة وحدها، فالقرار السياسي ليس مجرد قرار أمني، وهو أوسع نطاقا بكثير، ويأخذ في اعتباره جوانب الصورة كلها، ولا يصح في الحساب السياسي أن تبقي الأمور علي ما هي عليه، ولا أن يجري الاكتفاء بإجراءات جزئية متفرقة، لا تغير المزاج العام المبتئس، بل ربما تفاقمه من حيث لا تحتسب، فالعدالة الناقصة ظلم كامل، ونحن لا نتعامل مع قوائم وأسماء وأرقام صماء، بل هي حياة وحقوق ومصائر بشر، يعتصرهم الألم، ويحيل معاناة أسرهم إلي جحيم لا يحتمل، فوق ما تعانيه مصر بغالب أهلها من عنت العيش في لحظة اختناق عام، لا يصح أن نضيف إليها، أو نبقي علي احتقان سياسي لا لزوم له في أبسط معايير الرشد، وطبيعي جدا أن ينتظر الكل قرارات الرئيس، فهو المخول بالتصرف بحسب صلاحياته الواسعة، وقد نشكو أو يشكو غيرنا من ظلم واقع، وقد نطالب أو يطالب غيرنا، لكن موقف الرئيس شيء مختلف، ولا يصح له أن يكون فقط في خانة إبداء التعاطف مع المطالب، بل أن يتصرف ويقرر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف