الأهرام
صلاح سالم
الاغتراب الإنسانى فى المجتمع الكونى!
كانت الثورة المعرفية والتكنولوجية قد بشرتنا بعالم جديد رائع، يستطيع الإنسان فيه أن يصبح كوكبيا، قادرا على الاستمتاع بدفء التواصل مع باقي أفراد القرية العالمية. تلك البشرى تبدو فى اعتقادنا متسرعة إن لم تكن خاطئة، حيث الفارق يظل شاسعا بين النزعة الاتصالية كمعطى تكنولوجى يسمح بتبادل رسائل إعلامية ومعلوماتية، ولكن عبر وسائل تنتمي في النهاية إلي عالم الآلة. وبين النزعة التواصلية كنمط تفاعل إنسانى يقوم علي الحميمية والمباشرة. بل يمكننا القول إن هيمنة الاتصالية التكنولوجية إنما تدفع إلي إفقار التواصل الإنساني تدريجيا، حيث غيرت الشبكة العنقودية تدريجيا سلوكيات أغلب البشر وهم بصدد ممارسة العمل والتعليم والترفيه وغيرها من النشاطات الإنسانية، على نحو دفع كثيرين إلى الاندماج في عوالم افتراضية متخيلة، تحل محل عوالمهم الواقعية، ولكن من دون أن تقوم بدورها في إشباع الحاجات الإنسانية إلى الانتماء والتعاطف، وغيرهما من مضادات الاغتراب، حيث يتحول الفرد تدريجيا من مجرد ذات إنسانية تتفاعل مع غيرها لتكوين بنية اجتماعية, إلي كونه بنية مغلقة على نفسها، نازعة دوما إلي تكريس استقلاليتها.

كانت الثورة الصناعية قد دفعت بالأسرة الممتدة، الموروثة عن العصر الزراعى إلى غياهب التاريخ، لمصلحة الأسرة النووية، كحامل اجتماعى للروح الحديثة. أما الثورة المعرفية فصارت تدفع بهذه الأسرة النووية إلى مصير مجهول، مفسحة المجال لما يمكن تسميته «الأسرة الإلكترونية» القائمة على الفرد نفسه وعدته الاتصالية. وبينما كان التليفزيون، رمز عصر الصناعة / الحداثة، هو الذى يشكل محور اهتمام الأسرة النووية، القادر على حجز أعضائها في مقاعدهم أمام مباراة مثيرة لكرة القدم يتشاركون فى تشجيع أحد طرفيها، أو عمل درامى جذاب يتبادلون الحديث حول أحداثه والقضايا التي يثيرها، فيتولد لدى الجميع مساحة اهتمام مشترك، لعله التعبير التلقائى عن روح الأسرة، فإن الأسرة الإلكترونية خضعت تدريجيا لمنطق عصر ما بعد الصناعة/ الحداثة الذى خلق تحديات جديدة نالت من تماسكها حتى فقدت مركزيتها فى جل المجتمعات الإنسانية. ورغم أن التليفزيون، كوسيط تكنولوجي، قد مثل تحديا للمجتمع الحديث، لا يزال موجودا وفاعلا فإنه خضع لمنطق العصر الفضائى حيث بلغ تعدد قنواته/ رسائله حدا لم يعد ممكنا معه أن يتفق طرفان فقط على أولوية رسالة واحدة قادرة على استقطاب اهتمامهم، إلا في حالات بالغة الاستثنائية، كالمباريات الكبرى لكرة القدم مثلا. وهكذا لم يعد هناك تليفزيون «الأسرة/ المنزل» القادر على تجميع أعضائها، بل صار هناك تليفزيون االحجرة / الشخصب الذى يتمكن معه الإنسان من إحكام بابه على نفسه، والذوبان الكامل في فرديته، وهو يتلقى رسالته المفضلة. وأما الوسائط الجديدة، وعلى رأسها الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر، فقد ساعدت على تعميق اغتراب الإنسان عمن يجاورونه فى البيت نفسه، وذلك عبر عملية تفاعل جغرافي مزدوجة التأثير: فمن ناحية تقوم تلك الوسائط بتكسير جغرافيا الكون، ليصبح الفرد في استراليا والولايات المتحدة قريبا جدا، لا يبعد عن الكائن الاتصالى سوى تلك المسافة الممتدة مباشرة بين عينيه وأذنيه وسطح شاشة الكمبيوتر أو سماعة جهاز التليفون، ليصير العالم مجرد حجرة وليس فقط قرية. ولكن هل يعنى ذلك أن الإنسان صار قادرا على استبدال انتماء قريب، بآخر بعيد، ومن ثم فهى حركة تواصل كونى تتسم بالديمقراطية والمرونة معا، يحل فيها الصديق محل الشقيق، أو الصديق البعيد محل القريب؟.. الإجابة الغالبة، للأسف، هى النفى؛ لأن مجرد وقوع حادث حزين من قبيل دخول الفرد إلى مشفى, أو حدث سعيد يحتاج معه الإنسان إلى مشاركة الآخرين، سوف يكشف للإنسان تلقائيا أنه قد عوَّل كثيرا على عالم تمثيلى/ وهمى يحوى الكثير من الخيال، والقليل من الحقيقة، إلى درجة قد يسقط معها فريسة للشعور بالوحدة القاتلة والخواء الكئيب، فليس غريبا إذن أن تتكاثر حالات الانتحار في المجتمعات الأكثر عصرية، وأن تتزايد حالات الطلاق أو الانفصال العاطفى فى جل المجتمعات، كنتيجة مباشرة للتراجع الكبير في قيمة الأسرة، وتزايد الرغبة في العزلة، ونمو الشعور بالقدرة علي الاستغناء، في إطار مجتمع نفعى وهمي يقوم علي الفردانية والآلية، كما يؤسس لاغتراب إنساني عميق.

تدفع مشاعر الاغتراب هذه الكائن الإنساني إلى التركيز على هويته الفردية، ما يقوده فى الأغلب إلى الالتصاق بمكوناتها الأولية وخاصة المعتقدات الدينية، ليس فقط ليملأ الفراغ الوجداني الشاسع الذي خلَّفه رحيل أو ذبول المجتمع الكلاسيكى بعلاقاته الحميمة، وإنما بالأساس بحثا عن جذور وملامح للتميز تحت ضغوط عمليات النمذجة والقولبة، والعلاقات الكمية والتماثلات الشكلية المحيطة التى يفرزها مركز واحد يصير منظما لمجمل النشاط الإنساني فى الفضاء الكونى المتمدد. ومن ثم انفجر الإحياء الدينى فى كل مكان تقريبا، ليس ذلك الإحياء الروحاني الذى كان سلفا، ولا الإيمان التقليدى الذى ساد زمنا، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور المتدينين بالهزيمة والرغبة فى الثأر، والطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يُطرد منها، ولو اضطروا إلى حرقها. ولعل ذلك يفسر، ولو جزئيا، جاذبية تنظيم داعش، أبرز نماذج الإرهاب المعولم، للشباب فى المجتمعات الأوروبية، ليس فقط أولئك المهاجرين المنحدرين من أصول عربية إسلامية، بل وأيضا الذين تتجذر أصولهم فى المجتمعات الغربية؛ ممن ضعفت قدرتهم على التكيف مع المجتمع الحديث وما بعد الحديث، فوقعوا أسرى لأزمة معنى جعلت حياتهم بلا مغزى، ودفعتهم للبحث عن الخلاص منها ولو على نحو مأساوي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف