الأهرام
مراد وهبة
تغيير فى فكر الفاتيكان
إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى قيل عن الفاتيكان إنه فى الطريق إلى مواجهة نتائج غير مسبوقة من بينها أن الكنيسة ستبث اليقظة فى روح شعبها، وكان مؤتمر الفاتيكان الثانى الذى عقد فى الفترة من 1962 إلى 1965 هو ثمرة هذه اليقظة. ومفاد هذه اليقظة أن الكنيسة لم تعد مجرد نسق مغلق مفروض من فوق لأن المؤمنين أصبحوا هم الكنيسة، ومن ثم أصبحت متطورة بتطورهم. ومن هنا أصبح من حق المؤمنين أن يقولوا: «نحن الكنيسة» و «نحن» هنا تعنى الانفتاح وليس الانغلاق، أى تعنى أنهم قادرون على النقد الذاتى. ومن هنا قيل إن الانقسام الحاد حدث مرتين: فى المرة الأولى حدث ذلك الانقسام بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية فى عام 1054، وفى المرة الثانية حدث بين الكاثوليك والبروتستانت فى القرن السادس عشر إلا أنه قد انتهى بلا رجعة فى ذلك المؤتمر الثانى. ومعنى ذلك أن الكنيسة الكاثوليكية أصبحت فى حاجة إلى حركة اصلاح دينى أو بالأدق فى حاجة إلى علم لاهوت جديد. وفى هذا السياق قيل إن الذى صاغ هذا العلم لاهوتى فرنسى اسمه إيف كونجار (1904- 1995). وفى عام 2013 صدر كتاب عنه عنوانه الرئيسى «لنكن أمناء للمستقبل» وعنوانه الفرعى «انصتوا إلى إيف كونجار». ومؤلف الكتاب اسمه الأخ إميل الذى التقى كونجار فى عام 1976 ومن يومها وهو مستغرق فى فهم رسالته اللاهوتية. وقد أوجزها الفيلسوف الكندى تشارلس تايلور فى مقدمته للكتاب وجاء فيها أن رسالته تدور حول أفكار ثلاث:

الفكرة الأولى تدور حول فهم كونجار للكنيسة من حيث أن لها رسالة موجهة إلى المجتمعات والحضارات. ولهذا تُرجم الانجيل إلى عدة لغات إلا أن الترجمة وحدها لم تكن كافية، إذ المطلوب أن تكون الكنيسة قادرة على التحدث مع الجماهير بلغة تكون قادرة على فهمها. ولهذا كان المطلوب من اللاهوتيين المشاركين فى ذلك المؤتمر أن يكونوا على وعى بــــس علامات الزمانس أو بالأدق «علامات العصر» وكان من بين هذه العلامات وعى الفرد بذاته باعتباره وحدة قائمة بذاتها، أى مستقلة. وأنها تشعر بأصالتها وباحترامها لحقوق الانسان ولتطلعاتها فى ممارسة الديمقراطية.

الفكرة الثانية تتمثل فى قدرة الكنيسة على تجاوز الانقسامات بحيث يمكن أن يقال عنها إنها كنيسة مسكونية، أى كوكبية، تنسف الفواصل بين كنيسة وأخرى وتنتهى إلى كنيسة واحدة.

أما الفكرة الثالثة والأخيرة فهى كامنة فى قدرة الفرد على التعامل مع السلطة الكنسية فى جميع أشكالها من حيث التسلسل الهرمى والالتزام ببنود الايمان.

ويلزم من هذه الأفكار الثلاث أن تمتنع الكنيسة عن الدخول فى نسق مغلق يدور حول فكرة محورية تشى بأنها صلبة ومتحجرة وغير قابلة للتطور، أى تشى بأنها فكرة مطلقة ولا تقبل التغيير بل تشوه رسالة الكنيسة وتخون طبيعتها لأن الكنيسة الحقة لا تتسق مع النسق المغلق بل تشتهى مجاوزته لكى تكون فى خدمة التطور والارتقاء. وبناء عليه فإن الاستجابة، فى هذه الحالة، تكون مبدعة بالضرورة فتقرر أفعالاً لم تكن تمارسها فيما مضى، كما تفرز تناولاً جديداً وبأسلوب جديد لمسائل شائكة، ومن ثم يكون الايمان نفسه فى حالة تجدد.

والسؤال بعد ذلك:

ماذا يحدث إذا كانت لديك قناعات يقينية لا تقبل الحوار؟

اجهاض الأسئلة قبل مولدها. ولكى تمنع هذا الاجهاض عليك بأن تكون على وعى بأنك قادر على تغيير فكرك بفضل ما يقوله محاورك. ومع ذلك فثمة سؤال لابد أن يثار وهو على النحو الآتى:

ما السبب فى إجهاض الأسئلة قبل مولدها؟

إنه التراث إذا نُظر إليه على أنه كيان مطلوب صونه والمحافظة عليه من أى تغيير. وهنا يقول كونجار إن التراث ليس مجرد نقل للماضى إذ هو منفتح على مستقبل جديد. ومن هنا يمكن القول إن الابداع كامن فى نقل التراث. وهذا الابداع نفسه يلزم أن يُعمل ذاته فى الايمان. ومعنى ذلك أن الكنيسة يلزم أن تتشكل من جديد بلا توقف وذلك بأن تعيد قراءة النص الدينى لكى تستعين به فى الاجابة عن الأسئلة المثارة فى كل زمن وفى كل عصر. وهذا هو مغزى التأويل من حيث إن وظيفته ليست فى معرفة ماذا كان يريد أصحاب الأناجيل الأربعة قوله، بل ماذا يمكن أن يقوله هؤلاء لو أنهم كانوا أحياء فى زمان غيرهم، وليكن مثلا زمان ماركس أو زمان فرويد. ماذا كانوا يقولون؟ لأن أقوالهم فى هذه الحالة لن تكون تكراراً لمفاهيم سابقة.

وإذا أردت مزيداً من الفهم فاعرف أن الكنيسة يلزم أن تكون على وعى بأن معرفة التاريخ تشى بعدم مطلقة ما هو نسبى على حد قول كونجار. وأظن أن هذا القول الثورى يمتنع معه تكفير مَنْ يقف عند النسبى. وهذا هو مغزى عنوان الكتاب «لنكن أمناء للمستقبل».

وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول إن عبارة البابا فرنسيس الأول «مَنْ أنا حتى أدين» هى أعلى مراحل عنوان ذلك الكتاب. وقد وردت هذه العبارة فى حوار أجراه مراسل الفاتيكان لدى أشهر جريدة فى ايطاليا «لاستمبا» مع بداية هذا العام، وهى تعنى أن السلطة الكنسية ليس فى إمكانها الإدانة التى تسببت فى الانقسام الذى حدث مرتين. ولكن مع إنكار الإدانة يلزم إعادة النظر فى العلاقة بين السلطة الكنسية، وأى سلطة دينية أخرى، وبين العقيدة المطلقة.

ولهذا فالسؤال اللازم بعد ذلك:

هل فى إمكان العقيدة المطلقة أن تكون هى نفسها متطورة ؟.

وإذا لم تكن كذلك فكيف يكون فى إمكانها التحدث بلغة العصر؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف