المصريون
جمال سلطان
بيان البرادعي والجدل الواسع حوله
البيان المفاجئ الذي نشره الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية السابق على الرأي العام بخصوص شهادته ، أو جزء من شهادته ، على ما جرى في أحداث 3 يوليو وما بعدها ، أثار ضجة كبيرة طوال أمس وحتى اليوم ، وأحدث اشتباكا سياسيا جديدا بين الجميع ضد الجميع ، سواء أنصار السيسي أو خصومه وأنصار مرسي أو خصومه ، والغريب أن كل تلك الأطراف هاجمت البيان واتخذت موقفا مهاجما للبرادعي وناقدا له ، وكل طرف يحمله تلالا من الاتهامات الثقيلة وبألفاظ عنيفة وشديدة القسوة ، وربما هذه المفارقة تكشف لنا عن خطورة شخصية البرادعي وقوة حضورها في المشهد حتى الآن ، وما يسببه ظهورها من قلق لكل الأطراف . بيان البرادعي كان أقرب لتبرئة موقفه من الأحداث ، سواء اتهام أنصار مرسي له بالمشاركة في الدم والتحريض على الإطاحة بمرسي أو اتهام أنصار السيسي والمجلس العسكري له بأنه متواطؤ مع الإخوان ويدافع عن الإرهاب وأنه حرض العالم على مصر والسيسي بعدما استقال وسافر ، وسفه البرادعي من رواية الإخوان بأنه كان يخطط "للانقلاب" وأنه سافر إلى دول أوربية عديدة قبل 30 يونيه لتسويق عزل مرسي ووصف ذلك في بيانه بالأكاذيب وقال ما نصه : (الأمر المحزن والمؤسف أن الكذب وتغييب العقول استمر من كافة الأطراف وحتى الآن، فمن جانب هناك من يدعى أنني سافرت إلى الخارج قبل ٣٠ يونيو للترويج والتمهيد لعزل الرئيس السابق، وأنني سافرت لإسرائيل، وأنه كانت هناك خطة من جانب الاتحاد الأوروبي لعزل الرئيس السابق، وأنني كنت على اتصال بالمجلس العسكري فى هذا الشأن بل وأنني كنت على علم بقرار المجلس العسكري احتجاز الرئيس السابق) ، غير أن البرادعي كشف عن رواية جديدة ربما لم تكن معروفة على نطاق واسع ، وهي أن هناك مفاوضات سرية كانت تجري قبلها بين المجلس العسكري وبين الرئيس مرسي وممثلين عن جماعته ، وأن تلك المفاوضات لم يكن يعرف عنها شيئا لا هو ولا القوى الوطنية وأن كلا طرفيها لم يهتم بأن يطلع القوى الوطنية عليها ، مضيفا : (كما عرفت لاحقًا - سبقته مفاوضات بين المجلس العسكري والرئيس السابق وجماعته، تلك المفاوضات التي لم يعنى أحد من الطرفين بإخطار ممثلي القوى المدنية بها لعل وعسى أنه كان قد يمكننا المساعدة في التوصل إلى حل مقبول للطرفين) . وختم البرادعي بيانه بإشارة موحية ، بأن في "جعبته" المزيد من الأسرار والمعلومات ، وأن إحساسه بالمسئولية تجاه الوطن في ظروفه الحالية تمنعه من الخوض فيها أو إعلانها ، عندما قال في نهاية البيان : (هناك الكثير الذي يمكنني أن أضيفه من أمثلة على منهج الخداع والكذب واختطاف الثورة التي كنت شاهدًا عليها والتي أدت بنا إلى ما نحن فيه، والتي تمنعني بالطبع مقتضيات الفترة الحرجة التى يمر بها الوطن من الخوض فيها) ، وقد فهم البعض أنها تحمل تهديدا مبطنا . توقيت البيان ربما كان أكثر إثارة للجدل من البيان نفسه وما ورد فيه ، خاصة وأن هناك قلقا أمنيا وسياسيا من دعوات مجهولة للتظاهر والاحتشاد يوم 11 نوفمبر ، وحاول البعض أن يربط بين البيان وبين تلك الدعوة ، معتبرا أنها تحريض عليها وإثارة لمزيد من المتاعب ، وهناك من اعتبرها مؤشرا على أن جهات دولية ترى أن الحال في مصر لم يعد قابلا للاستمرار بتلك الصيغة ، على أساس أن البرادعي يمتلك صلات دولية تجعل لديه حاسة استشعار للأحداث السياسية في البلد ، وكل تلك ظنون وتخرصات ، في إطار البحث عن محاولة تفسير لتوقيت صدور البيان ، وفي تقديري أنها غير صحيحة ، لأن ما فعله البرادعي فعله الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة ، عندما كان يتعمد أن يحكي جزء مما حدث في 3 يوليو وما بعدها ، وأنه كان حريصا على إشراك الإخوان ولكنهم أصروا على التحدي ، وأنه لم يلجأ للعنف إلا بعد أن حاولوا شل البلد ، ونحو ذلك ، وبدون شك فإن عودة السيسي والبرادعي لتلك المرحلة لتبرئة موقفهما أمام التاريخ يكشف عن عمق حضور تلك اللحظة حتى الآن في المشهد ، والإدراك المتزايد لدى كل من شارك فيها بأن كل المشاكل والانهيارات التي حدثت وتحدث في مصر حتى الآن متصلة بالخلل في إخراج مشهد ذلك اليوم وما بعده . ثورة يناير كانت حدثا مبهرا بالفعل ، وكشفت عن أن المصريين يبحثون عن حياة أفضل ويضحون من أجلها ، وأنهم يحلمون بحياة سياسية واقتصادية تكفل كرامتهم وحقوقهم وتعيد للشعب القرار في صياغة مستقبل الوطن ، وطوفان الملايين الذي كان يغمر الشوارع والميادين على مدار شهور عديدة أذهل العالم كله ، ولكن المشكلة أن الخبرة التاريخية لم تمنح القوى الوطنية المصرية الجديدة وعيا سياسيا ناضجا يسمح لها بصياغة توافق وطني سلمي شامل يمنع الانقسام المجتمعي ويحمي الحد الأدنى من حقوق كل الأطراف ، كما فشلوا في ترجمة هذه الطموحات إلى منظومة سياسية عادلة وسلمية وقادرة على إدارة خلافاتها بشكل شفاف وعقلاني ، وسريعا انقسم المشهد بعد إطاحة مبارك إلى فريقين ، الإخوان ومن حالفهم من الإسلاميين ، والقوى المدنية التي تبلورت معظمها في ما عرف بجبهة الإنقاذ ، وتنازع الفريقان على كل شيء تقريبا ، وتراشق الطرفان بالسباب والاتهامات بالخيانة والتآمر مع الخارج أو الاستعانة بالجيش لقمع الطرف الآخر ، وأشهد بأن المجلس العسكري أدار المشهد باحترافية وذكاء ، فمد الخيوط لهذا الطرف ثم لذاك وفق رؤية وخطوات سياسية محسوبة بدقة ، وولدت الأحقاد والنزاعات وقصر النظر شهوة غامرة من الانتهازية السياسية عند الطرفين ، استباحوا فيها كل الخطوط الحمر ، أخلاقيا وسياسيا ، حتى انتهى الأمر بإخراجهما من المشهد بالكامل ، والوطن هو الضحية .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف