الجمهورية
على هاشم
الإعلام يحاكم نفسه في مؤتمر الشباب.. فهل من دماء جديدة..؟!
* في جلسة الإعلام بمؤتمر الشباب بشرم الشيخ انعقد ما يشبه محاكمة للإعلام بأيدي الإعلاميين أنفسهم.. وتباري جل الحاضرين ينتقد أحوال المهنة. ويفند مساوئها وكأنهم ليسوا من صناعها.. ظهرت علامات السخط عليهم.. الكل يرمي الإعلام بأفظع الاتهامات ويحمله مسئولية ما نحن فيه من كوارث» فمواثيق الشرف غائبة أو تكاد..والالتزام بالموضوعية شبه مفقود. والفردانية طاغية. وشخصية المذيع أحيانًا تلون البرامج وتصبغ الحوارات بثقافتها وانحيازاتها وربما مصالحها فتخلط الرأي بالمعلومة والخبر بالمواقف المسبقة.. الصراع محموم علي تحقيق أعلي نسب المشاهدة أو المقروئية.. حضرت مصالح أصحاب الصناعة وغابت مصالح الوطن.. فإذا كان كل هؤلاء غاضبين أو غير راضين عما آل إليه الإعلام وهم أهله فكيف بالجمهور المتلقي لاسيما المتضررون من شطحاته وآثامه..؟!
جلسات المؤتمر كانت حاضرة في المشهد العام وحظيت بإقبال وقبول من الحاضرين في قاعاته وأمام الشاشات. وسجلت نسب مشاهدة عالية من الرأي العام.. لكن السؤال الذي ظل يتردد علي ألسنة الناس طول الوقت : ماذا نفعل لإصلاح الإعلام» خطابه ومساره.. هل بإمكان التشريعات المنتظرة وحدها. وهي قطعًا مهمة للغاية. أن تصلح حال الإعلام.. أم أن الأمر أكبر من مجرد تشريعات يمكن أن يؤول مصيرها إلي المصير نفسه الذي آلت إليه ترسانة قوانين نجح المنفلتون والفاسدون في النفاذ من ثغراتها.. الأمر الذي يبدو في حاجة لتوفر إرادة الإصلاح من جانب الجميع.. ولتبدأ الجماعة الإعلامية وخصوصًا الجماعة الصحفية بإصلاح ذاتها طوعًا بتفعيل ميثاق الشرف وتفعيل التقاليد الموروثة.. حتي تفعل الجماعة الإعلامية الشيء ذاته حين يكتمل كيانها القانوني بإقامة نقابة الإعلاميين وتأسيس المجالس الوطنية للإعلام والصحافة وإصدار القوانين المنظمة لعملها وفقًا لما نص عليه الدستور.
الخطاب الإعلامي كما الخطاب الديني لن ينصلح طواعية. ولن يتغير مساره باستجداء ذمم أصحاب المهنة.. فإاذا كانت التيارات المتطرفة شوهت صورة الإسلام بإراقة الدماء الذكية وهتك الأعراض ونهب الأموال وتدمير الأوطان في غيبة خطاب أو فكر ديناي قادر علي التصدي لأفكار التطرف والغلو والمتاجرة بالدين فإن تيارات الفوضي الإعلامية وتيارات المصالح فعلت بالإعلام ما هو أسوأ.. حيث أفسدت أذواق المشاهدين تارة بأعمال فنية سطحية هابطة. وتارة ببرامج الإثارة والتشويه وتصفية الحسابات والتخديم علي المصالح الفئوية لأصحاب المال والأعمال والقنوات ووسائل الإعلام التي عكرت المزاج العام وكرست حالة استقطاب عام وبلبلة بلغت ذروتها عقب ثورتي 25 يناير و30 يونيو الأمر الذي دفع الرئيس السيسي للقول: سوف أشكوكم للشعب ـ والمقصود هنا الجماعة الإعلامية ـ.. كما حذر مرارًا من خطورة الإساءة للعلاقات بين الدول بمعول الإعلام.. وأحسب أن ترك الإعلام بلا ضوابط لا يتحمل الإعلاميون وحدهم مسئوليته بل تتحمله الحكومات المتعاقبة التي تباطأت في إصدار تشريعات أوجبها الدستور وجعلها مكملة له. والبرلمان أيضًا شريك في هذه المسئولية.. والسؤال هنا لماذا تأخرت الحكومات المتعاقبة في إصدار هذه التشريعات لوقف هذه الفوضي..؟! ومتي تتكاتف الجماعة الإعلامية لحماية نفسها من تجاوز بعض أبنائها حتي لا يبكي الجميع علي دم الحرية المسفوك ؟!
وإذا كان الرئيس يشكو الإعلام للشعب وهذا حقه فإننا نشكو إليه تقصير الحكومة في مواجهة كوارث باتت متكررة ومعروفة. مثل السيول وارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم وأزمة الدولار الخانقة التي اجتاحت كل شيء في حياتنا. وعلي أنغامها ارتفعت أسعار كل شيء بنسب تفوق كثيرًا معدلات الزيادة في الأجور أو الدخول لشرائح مجتمعية كثيرة » الأمر الذي أسهم في تآكل الطبقة الوسطي رمانة الميزان لكل استقرار ونهضة أو سلام اجتماعي..
والسؤال : لماذا تتأخر الحكومة في مواجهة المشكلات حتي تصبح أمام أزمات تطحن الفقراء وتسحب من رصيد الحكم.. وتجعل السؤال : إلي متي ندور في هذه الحلقة المفرغة من الاختناقات التي تضيق وتتسع.. لماذا لا يتحلي المسئولون بشجاعة اتخاذ القرارات الصحيحة في أوقاتها المناسبة.. أما آن الأوان لبناء طبقة سياسية جديدة من الشباب الذين لم يتلونوا ولم يتورطوا مع أنظمة سابقة سواء في المعارضة أو الموالاة لتتبوأ صدارة المشهد في مصر.. في السياسة والاقتصاد والإعلام والإدارة.. لتتواكب مصر مع تحدياتها وتستعيد أمجادها التي خلدها التاريخ إلي جوار الإمبراطوريات العظمي حتي لا تنكفئ علي مشاكلها الداخلية ويصبح أكبر همها حماية حدودها أو تطهير ترابها من دنس الإرهاب والتآمر.
الإعلام في حاجة لثورة جديدة في الفكر والمحتوي والإرادة لتعود إلينا ريادة كانت حقيقية يومًا ما قبل أن يغزو الأمة جفاف روحي وتخلف وقوالب جامدة عادت بنا للوراء.. فالإعلام صمام الأمن القومي وإصلاحه أولوية مقدمة علي ما سواه.. فإذا أردنا شعبًا واعيًا وحيوية مجتمعية وروحًا معنوية عالية ورأيًا عاماً داعمًا للدولة فعليكم بإصلاح الإعلام وتنميته وإعادة الاستثمار فيه.. وضخ دماء جديدة في شرايينه.. وهنا يحضرني اجتماع دُعيت إليه ضمن قادة الإعلام القومي والخاص بعد ثورة يناير مباشرة مع رئيس الوزراء آنذاك الفريق أحمد شفيق. وطلبت من جميع الزملاء التنحي عن مواقعهم لإفساح الطريق لجيل جديد يعبر بصدق عن المرحلة الجديدة. وقدمت استقالتي يومها وهو ما لم يفعله زملائي باستثناء الزميل عبد القادر شهيب رئيس مجلس إدارة دار الهلال الذي وافقني هذا الرأي بينما ردَّ الراحل عبد الله كمال ـ رحمه الله ـ بأنه لن يستقيل حتي يقيلوه.. وتساءل د. عبد المنعم سعيد : لمن نقدم استقالتنا.. فأجابه الفريق شفيق: طريق الاستقالة معروف..!!
وأحسب أننا في حاجة اليوم لضخ دماء جديدة بأفكار أكثر حيوية في جميع المجالات وعلي رأسها الإعلام.
الفهم الخاطئ للحرية هو عدوها الأول. فلا حرية بلا ضوابط أخلاقية تعصمها من الزلل والشطط والانحراف.. الإسراف غير الرشيد في استخدامها يمنح الفرصة لأعدائها ويقدمها لهم علي طبق من فضة!! التطرف في حرية الرأي والتعبير يجعل الكلمة معول هدم.. والصورة معول نهش للخصوصية وإهدار لحرمة الحياة الخاصة.. فليس كل ما يعرف يقال بالضرورة.. استباحة الأعراض واغتيال السمعة لا تقل خطورة عن قطع الطريق أو التظاهر غير السلمي الذي يعرض البلاد والعباد لخطر داهم.. غياب التقييم والمحاسبة للإعلام المخطئ يفتح المجال أمام مزيد من التجاوز الذي صار وكأنه حبل ممدود يشنق به المتجاوزون إعلاميًا أنفسهم وأبناء مهنتهم المفتري عليها.
الأصل في الإعلام أنه رسالة تنوير وإفصاح ووسيلة ديمقراطية يراقب بها الشعب حكومته وممثليه في البرلمان ونافذة تثقيف للعقل وتحريره من أوهام الجهل والتعتيم. وأغلال الاستبداد والشمولية اللذين تجاوزهما الزمن في ظل تدفق المعلومات والمعرفة.. لكن الأمر عندنا بدا نقيضًا لجوهر الرسالة وتنافسًا محمومًا علي كعكة المصالح التي تتحرك باتجاه أصحابها.. يحركون بوصلتها كيف شاءوا. ولَم لا وهم الملاك الممولون الممسكون بزمام الإعلام..؟!
التوك شو ليس بدعة عندنا.. لكن البدعة أن بعضه صار منصة سياسية تخلط الخبر بالرأي. وتحمل من الصراخ والعويل وتصفية الحسابات وتأجيج نار الفتن أكثر مما تحمل من عقلانية الحوار والالتزام بأولويات الوطن والدفاع عن مصالحه ضد المخربين والمتطاولين والمسيئين لرموزنا مثلما حدث من إياد مدني أمين عام منظمة التعاون الإسلامي الذي سخر من ثلاجة الرئيس السيسي دون أن يلقي ردًا مناسبًا من وزير التربية والتعليم الذي كان حاضرا للمؤتمر إياه..وانتهي الأمر باستقالته من منصبه.. وليت وزيرنا تحلي بلباقة الرد وشجاعة الموقف في حينها!!
بعض إعلامنا للأسف يبدو غارقًا في الإسفاف والسطحية وانتهاك الخصوصية. مروجًا لحالة استقطاب وتفسخ اجتماعي. مستهينًا بالخصوصية والقيم الروحية المورثة.. فماذا نتوقع من أجيالنا الجديدة التي تشربت مثل هذه الممارسات اليومية. واستقر في وجدانها مثل هذا السفه.
الانفلات الذي صاحب ثورة يناير. وضرب قيم المجتمع خلق حالة تشوه وجدت صداها في الإعلام الذي ساعد علي تكريس العنف وكراهية الآخر وضيق الصدور بحق الاختلاف.. وزادت مواقع التواصل أو التراشق الاجتماعي الطين بلة حين كرست هي الأخري لتداول الشائعات التي روجتها الكتائب الإلكترونية للجماعة الإرهابية الأمر الذي نشر حالة إحباط واهتزاز للثقة والبلبلة.. وقد نجحت تلك الكتائب في توظيف الشائعات كسلاح يستنزف الدولة طوال الوقت ويجعلها متأهبة باستمرار وهو ما يهدد كل فرص الاستقرار والتقدم.
إعلامنا ليس في أحسن حالاته قطعًا لأسباب يطول شرحها لكنه ليس حالة مستعصية وبإمكان الدولة والجماعة الإعلامية - أن أرادتا - وضع الحلول الجادة موضع التنفيذ. وبعضها جري طرحه في مؤتمر الشباب الأخير. وبعضها الآخر موجود في بطون دراسات أعدتها لجان متخصصة قبل الثورة وبعدها.. وخصوصًا الإعلام القومي رمانة الميزان في صياغة الوجدان الشعبي وصيانة الرأي العام من العبث والتضليل ورياح الفتنة.
والسؤال: هل نحن مستعدون الآن لإصدار تشريعات الإعلام التي نص عليها الدستور.. والأهم :هل الجماعة الإعلامية مؤهلة لمحاسبة أعضائها وإلزامهم بالتزام روح القانون والأخلاق المهنية حتي يأتي الإصلاح بيدهم لا بيدي عمرو.. هل هي قادرة علي تطوير نفسها ومجاراة العصر وإحداث التأثير المطلوب في الداخل والخارج.. واستعادة بريق الريادة بموضوعية واحترافية وكفاءة واقتدار.. والأهم هل أنصتت لما قاله الرئيس في ندوة الإعلام بأن الإعلامي سيحاسبه الله علي كل كلمة يقولها وأن المرء لا يزال يصدق ويتحري الصدق حتي يكتب عند الله صديقًا.. وأن الكل محاسب عما يتحدث به إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر.. صدق الإرادة شرط أساسي لإصلاح الإعلام » إرادة الدولة وإرادة الإعلاميين أنفسهم.. فهل نريد الإصلاح حقًا ؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف