الأهرام
محمد ابو الفضل
الواقعية فى السياسة الخارجية المصرية
كل يوم يثبت أن التوجهات والتقديرات العامة لمصر حيال مجموعة من الأزمات والقضايا الإقليمية صائبة، وفكرة المتابعة والمراقبة عن كثب تحقق أهدافها بنجاح، والابتعاد عن الانخراط المادى فى الملفات الشائكة، أفاد فى تجنب الكثير من التداعيات السلبية، ووفر فرصة جيدة للمرونة والمناورة، بل وتسجيل النقاط فى مرمى الخصوم، ومن تصورنا أنهم أصدقاء.
النتيجة، وربما القناعات التى وصلت إليها دول عديدة فى بعض الأزمات، أكدت أن معظم التصورات والتصرفات المصرية، حالفها التوفيق بدرجة عالية، ومن ينظر إلى خريطة الصراعات فى المنطقة، ويدقق فى المؤشرات، يتيقن أن الدبلوماسية المصرية، لعبت دورا مهما فى تجاوز مطبات كبيرة، وزيادة التأييد والدعم لرؤيتها فى عدد من القضايا المصيرية.

فى الوقت الذى فشلت فيه رهانات دول عدة على العمل العسكري، ومحاولة نصر قوى المعارضة السورية، بجناحيها، المسلح والمدني، المتطرف والمعتدل، فاز رهان مصر على التسوية السياسية للأزمة، وقد يكون هذا الطريق محفوفا بمشكلات كبيرة، لكنه أصبح الخيار الرئيسى لدى قوى إقليمية ودولية مؤثرة فى المسارات المختلفة، والكل مهموم بالبحث عن مخارج سياسية تحفظ له ماء الوجه على الأقل، وتراجعت أجندات متعددة، تبنت أولوية العمل العسكري.

مع أن غالبية الدول كانت ممارساتها تدور فى فلك النظام السورى أو معارضيه، إلا أن مصر، وأعتقد أنها من الدول القليلة، التى امتلكت قنوات مفتوحة مع عدد كبير من الأطراف الفاعلة، من النظام وحتى معارضيه، ولم تغلق أبوابها أمام قوى إقليمية ودولية متصارعة، وحافظت على مد خيوطها مع الجميع تقريبا، أملا فى تغليب رؤيتها القائمة على ضرورة التسوية السياسية، لأن الحلول الأخرى عواقبها غير مضمونة، وتمثل خطرا، لن يستطيع تحمل تكاليفه الباهظة كثيرون.

لم يكن الحال مختلفا فى الأزمة الليبية، فرغم التعقيدات التى أحاطت بها منذ البداية، من الداخل والخارج، وما يكتنفها من غموض وقتامة وتشابك فى حسابات أطرافها الفاعلة وروافدها، غير أن مصر سلكت طريق الأدوات المتوازية، وفتحت خطوط اتصالات مع حلفاء حقيقيين، وجهات لم تكن على قناعة بنياتها، لكن متطلبات الحل اقتضت الحوار والنقاش معهم على مضض.

وبعد حزمة كبيرة من الجولات، فى عواصم مختلفة، اقتنعت بعض الدول الرئيسية، التى تصورت أنها قادرة على الحل والعقد فى الساحة الليبية، أن لدى مصر مقاربة تستحق الالتفاف حولها، بعد الوصول إلى اقتناع بأن ما يجرى يمكن أن يكشف المزيد من الفضائح، التى تؤكد أن هناك مؤامرة مكتملة الأركان على ليبيا، قادتها قوى تتعامل مع أزمتها، باعتبارها جزءا من الحل لا من الأزمة.

التطورات المقبلة على هذه الساحة يمكن أن تعزز مكانة السياسة الخارجية المصرية، التى اجتهدت بالتنسيق مع أجهزة أمنية وطنية، على ألا تتحول ليبيا إلى منغص دائم على الحدود الغربية، وحققت سياسة القنوات التى تسير بشكل أفقي، السياسية والأمنية والاجتماعية، أغراضها، ليس فقط فى تخفيف حدة الأزمات الواردة إلينا، لكن أيضا فى وضع لبنات أساسية يقوم عليها الحل، وقوامه السحرى ينطلق من الانفتاح على جميع القوى الوطنية، ونبذ فصائل العنف، وعدم مكافأة من ضاعفوا من عمق الأزمة، أو أسهموا فى وصولها إلى محطة لا أحد يدرى متى يتوقف فيها قطار التسوية الحقيقية.

فكرة التسوية السياسية، القائمة على نبذ الطائفية والعنصرية، ومحاربة التنظيمات الإرهابية ورفض العنف بأشكاله، واحدة من القواعد التى تنطلق منها السياسة الخارجية، ومن يراقب مناطق النزاعات والتوترات والحروب، يتأكد أنها أهم الأعمدة التى يجرى الارتكاز عليها، وكانت (ولا تزال) حاضرة فى تفاصيل جميع القضايا الساخنة، وبموجبها ربحت مصر جولات تتجاوز حدود سوريا وليبيا، لتمتد إلى العراق ولبنان واليمن، وفى هذه الدول رفعت السياسة الخارجية شعار «لا غالب ولا مغلوب» وأهمية تقديم تنازلات متبادلة، ليتسنى الوصول إلى تسوية، تقاوم الرياح التى يمكن أن تهب من الجهات الأربع.

الدروس المهمة التى يخرج بها المراقب من طريقة التعامل مع القضايا السابقة متعددة، وتتفاوت أهميتها من دولة لأخري، لكن فى النهاية تؤكد حصيلتها أننا أمام عالم مختلف، عالم لم تعد الوسائل التقليدية التى سبق تجربتها مناسبة له، وأنه بحاجة لقدر من التريث وعدم المجازفة، فنظرية «المعادلة الصفرية» الشهيرة لم تعد صالحة، خاصة أن التحالفات متغيرة، فليس هناك رابحون دائما وخاسرون أبدا.

أول درس، تراجع فكرة الرهان على حصان واحد، فكل الأزمات المشتعلة، لا يملك طرف بعينه إشعال أو إطفاء نيرانها، ولا توجد دولة، كما كان سابقا، تحتكر مفاتيح التسوية، أو تملك مفتاح الحرب، وبالتالى من الضرورى أن تكون العلاقات تسير وفقا لخطوات محسوبة ومع الجميع، وفى الحد الأدنى مع أكبر عدد من القوى المؤثرة.

الثاني، عدم وجود مكان لفكرة الثأر أو الإرث التاريخى بين الدول، فمن يتخيل أن هناك حربا يمكن أن تندلع لحسابات شخصية واهم، ومن يتصور أن التاريخ يعيد نفسه بحذافيره قليل الحكمة، ومن يعتقد أن الحرب بالوكالة كفيلة بتحقيق زعامته فى المنطقة لن يجنى سوى الخيبة، ومن لا يزال متيقنا أن بإمكانه إشعال فتيل الحرب ووقفها عندما يريد، لا يعلم شيئا عن المتغيرات والتطورات التى حدثت، والأساليب التى ابتدعت لفن المصائد والفخاخ.

الثالث، من الضرورى أن تحتفظ بأوراق سياسية، يمكنك استعمالها وقت اللزوم، وتعدد خياراتك، بمعنى ألا تضع كل البيض فى سلة جهة واحدة، حتى إذا تخلت عنك (دولة)، أو فكرت فى الضغط والمساومة والابتزاز، يمكن أن ترفض ذلك بسهولة، ومجرد أن يعلم الخصوم أو الأصدقاء أن لديك بدائل قوية تؤكد القدرة على الاستغناء عنهم, سوف يفكرون مرات قبل الإقدام على أى خطوة لتكبيدك خسائر مادية ومعنوية، لذلك تسعى دول كثيرة الآن إلى الاحتفاظ بكروت معلنة ومستترة يمكن استخدامها عند الضرورة.

السياسة الخارجية المصرية، استوعبت مبكرا الدروس الثلاثة، الأمر الذى جعلها راشدة، ولديها من الحكمة والحنكة، ما مكنها من الحفاظ على الكرامة الوطنية، وتفويت الفرص على قوى متباينة للتأثير على توجهاتها، وتصمد وسط موجات متتالية من الرياح والعواصف، وتنتقل من نصر دبلوماسى إلى آخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف