ماذا تعنى كلمة «فبركة»؟. إنها ببساطة تعنى القفز على الواقع أو استلهام جزء منه فى بناء مجموعة من الخيالات. ويلجأ الإنسان إلى هذا الأسلوب فى الحالات التى ييأس فيها من واقعه، بسبب صعوبته، أو عدم قبوله له. الفبركة خيالات تتشابه إلى حد كبير مع خيال الأدباء والمؤلفين الذين يحكون قصة تشبه الواقع، لكنها فى النهاية محض خيال، ومجرد تعبير عن حلم لمؤلف. هل تذكر رواية أرض النفاق للراحل يوسف السباعى؟.. إن لم تكن قرأتها فأظنك تذكر الفيلم الذى أنتج عن الرواية بذات الاسم.
يحكى الفيلم عن حبوب غير عادية ما إن يسفّها الإنسان حتى تغيّر فى أخلاقه وقيمه، من بينها الشجاعة والمروءة والنفاق والأخلاق وغيرها، لتختلف سلوكياته بعدها. جرّب بطل الفيلم -الراحل فؤاد المهندس- حبوب الشجاعة فأرهقته، ثم حبوب النفاق فربحته، وفى لحظة يأس ورغبة طفولية فى إصلاح العالم، قرر سرقة «شوال أخلاق» وألقاه فى ماء النيل، وسار مع صاحب المحل يتفقد أحوال الناس بعد أن شربوا حبوب الأخلاق. كل مواطن يشرب الماء يعطس، فيتحول الكذوب إلى إنسان صريح، لتنطلق المرأة المولولة على زوجها فى جنازة إلى لعنه، وزميله فى العمل الذى كان يبكيه منذ دقيقة إلى الدعاء عليه. فوجئ بطل الفيلم وصاحبه بيافطات موضوعة على المنازل عليها عبارة «شقة للإيجار» استغرب الاثنان فبادرا إلى سؤال أحد البوابين: كيف تظهر يافطة «شقة للإيجار» فى ظل أزمة السكن التى تضرب البلاد؟، فأجابهما أن الشقق التى كانت تدار لأغراض غير أخلاقية توقف أصحابها عن العمل، بعد أن تحسنت أخلاق الجميع، فانتشرت الشقق الخالية!. وينتهى المشهد الحالم ببائع الجرائد وهو يصرخ قائلاً: «انتهى المفعول.. انتهى المفعول»، ليعود كل شىء إلى ما كان عليه. عادت السيدة التى تضرب خادمتها إلى الضرب، والموظف المنافق إلى النفاق، واللص إلى السرقة، والشمال إلى الشمال!. اكتشف الجميع فى النهاية أن الأمر لم يكن أكثر من حلم، حين استفاقوا فى لحظة على حقائق الواقع.
هذه الحدوتة يمكن أن تكون مفيدة لكل من يصور لنفسه أن بمقدوره إيهام الناس بحل المشكلات، من خلال فبركة أحداث أو قصص وروايات، أو مجرد ترديد أقوال وإشاعات، وترجيح التصريحات والثرثرات اللفظية على القرارات. حل أى مشكلة يفرض على صاحبها التعامل مع الحقائق التى أدت إليها على أرض الواقع، وليس بمجرد إطلاق الكلمات عن أنها حلت، فارق كبير بين الواقع والإيحاء. من الممكن للإنسان أن يعيش الخيال للحظات، لكن هذه اللحظات لن تطول بحال من الأحوال، لأنه سرعان ما يجد نفسه مستسلماً لحقائق الواقع، ليكتشف أن الوقت الذى عاشه فى إطلاق الخيالات والإيحاءات بأن المشاكل حلت، كان أولى به أن يستثمره فى العلاج الواقعى للمشكلة. من يلعبون مع الناس لعبة التخييل أو الإيهام، شأنهم شأن من يلعب معهم لعبة خلعهم من الحاضر إلى خزائن التاريخ، ليمنحهم لحظات تأمل لهذا النوع من العدل المثالى، وذلك الصنف من الرحمة الإنسانية العلوية، وذلك الإحساس بالتضحية المقدسة.. فوقوا تصحوا!.