الوطن
د. محمود خليل
فوضى الاقتصاد.. وعدوى السياسة
لست فى حاجة إلى التدليل على حالة الفوضى التى تضرب المشهد الاقتصادى فى مصر، خلال السنتين الأخيرتين، تلك الفوضى التى تجلت فى انفلات الأسعار، وتغول التضخم، وانهيار سعر الجنيه، وضعف الاستثمارات، وتراجع السياحة، وتوقف عدد من المصانع، ثم جاء المشهد الأكثر إثارة قبل لحظات من اتخاذ قرار تعويم الجنيه، فى سياق الطريقة البلدى التى اعتمدتها الحكومة فى «التأشيع» حول انخفاض سعر الدولار، ودخول بعض المواقع والنوافذ الإعلامية فى مناقصة تبارى فيها الإعلاميون فى سوق خفض الدولار أمام الجنيه، وتوقع البعض أن ينخفض سعره إلى 7 جنيهات، حتى قلنا إن الدولار سيباع بالأوقية أمام الجنيه! انتهى المفعول سريعاً (أرجو أن تكون قد تصفحت مقالى أمس: «متى ينتهى المفعول؟»)، ولم تمض سوى بضع ساعات حتى اتخذت الحكومة قراراً بتحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، ورغم قناعتى بأن قرار التعويم كان خطوة طبيعية لا بد من اتخاذها، إلا أن الطريقة البلدى التى أدير بها الأمر ستجعل كلفته على المواطن العادى أشد وأعتى، فى وقت مكنت فيه هذه الطريقة نفسها عدداً من الكبار من الاستفادة إلى أقصى درجة، ومما يفاقم من الأمر أن الحكومة لم توضح لنا الإجراءات التى سوف تتخذها لضبط الأسعار داخل الأسواق، بعد قرار تحرير سعر الصرف، الأمر الذى سيضع الأسواق فى حالة فوضى كاملة، بعبارة أخرى تستطيع القول إن الطريقة التى أدير بها أمر تحرير الجنيه، جعلت مصطلح «التحرير» مرادفاً لـ«الفوضى»!

الاقتصاد والسياسة صنوان، فليس بمقدور أحد أن يتحدث عن الاقتصاد بمعزل عن السياسة، أو عن السياسة بعيداً عن معطيات الاقتصاد، زواج المال بالسياسة فى مصر أمر معلوم بالضرورة، وأى فوضى تضرب بيت المال لا بد أن يكون لها صدى فى بيت السياسة، لذلك أخشى ما أخشاه أن تمتد الفوضى التى ضربت الحياة الاقتصادية، ويبدو أنها ستستمر لفترة لا بأس بها، فى ظل العجز الذى تبديه الحكومة فى هذا الملف، إلى الحياة السياسية، ومما يدعم هذا الأمر أن حياتنا السياسة «متلصمة» بالكاد، أو قل هى فى حالة اهتزاز واضح، بعد توافق العديد من الأطراف الفاعلة داخل المشهد على تجفيف الحياة السياسية، فلا أحزاب تعمل، والحريات لدينا بعافية، والدستور دخل إجازة مفتوحة منذ التصويت عليه، ومجلس النواب على الوضع الذى تعلمه، وتكاد تكون المؤسسة الوحيدة التى تتحرك فى الشارع حالياً للتعامل مع الأزمة الاقتصادية هى القوات المسلحة التى توفر كراتين سلع غذائية بنصف الثمن توزعها على الفقراء فى القاهرة والمحافظات.

نحن نعيش لحظة خطر حقيقية، فمن مهد لدخول البلاد فى هذه الحالة من الفوضى الاقتصادية، سواء بسبب من الخارج أو من الداخل، لن يتوانى عن تمديد شبكة الفوضى إلى الواقع السياسى، لتشهد سوق السياسة حالة من الانفلات -لا قدر الله- تتشابه مع حالة الانفلات فى سوق الاقتصاد، والمشكلة أن جسم السياسة فى مصر ليس قوياً بحيث يمكنه المقاومة، وحماية نفسه من التقاط العدوى، أو مقاومة الجرثومة التى تقترب منه، إن لم تكن تتسكع فى خلاياه الآن.. ربنا يسلم!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف