على هاشم
معا للمستقبل - متي نمتلك ثقافة الاعتذار؟!
¼ ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ فريضة تبدو غائبة في حياتنا. وهو ما يعني غياب ¢تحمل المسئولية¢ كمبدأ حاكم لتصرفاتنا جميعاً.. فما مغزي أن يثير البعض قضايا قتلت بحثاً وخلافاً وجدلاً وهي قضايا عفا عليها الزمن وليس هذا وقتها.. فنحن في عرض ساعة واحدة للعمل والتوحد والبناء لإنقاذ الوطن من مزالق الانقسام والإرهاب والفساد.
تحمل المسئولية ثقافة وأمانة تفرض علي هذا المسئول أو ذاك المفكر.. هذا الإعلامي أو ذاك السياسي أن يتراجع عن الخطأ .فالرجوع للحق فضيلة والتمادي في الباطل رذيلة.. وأخطر ما يهدد شعوبنا هو إقحامها إعلامياً في قضايا تستنزف الجهد والعمر والقدرات. ناهيك عن البلبلة وتشويش الرأي العام وصرف الناس والجهود عن أولويات الوقت الواجبة.
فمتي نمتلك شجاعة الاعتذار.. فيبادر المسئول المخطئ أو المفكر أو الباحث أو الإعلامي أو أي شخصية عامة ليعلن اعتذاره عن خطأ أو تجاوز وقع منه .نتيجة قرار خاطئ أو فكرة هدامة أو جهل بالأمر.. متي يتقي الله فينا من يتصدي العمل العام أو يخاطب الرأي العام. فلا يلقي أخطاءه علي غيره بجهل أو سوء قصد. متي ندرك أن الاعتذار عن الخطأ تعبير عن رقي إنساني وسمو بشري ومؤشر لنبل الأخلاق واستقامة القيم.. وسلامة القصد والغاية.. فهل تحلينا بالفضيلة في خضم التلاسن والتراشق الإعلامي الدائر الآن في قضايا تثير الفتنة وتكرس الخلاف والانقسام وتشتت الجهود وتشيع البلبلة والفوضي, وهو خوض يظهر مدي الجهل الصارخ بالدين الحنيف وأحكامه لدي البعض وبعدهم عن جادة الصواب وهموم الوطن وأولوياته.. فماذا نسمي الدعوة لخلع الحجاب في تظاهره حاشدة بميدان التحرير غير أنها تحريض علي الفتنة ¢.. وماذا نسمي استغلال المنابر الإعلامية في طرح أفكار تنافي ثوابت الشريعة الإسلامية تحت ستار الاجتهاد.. غير أنه دس للسم في العسل واستهداف المجتمع في مقتل؟!
¼ مشهدنا الحالي خليط مشوش من زحام الأخطاء وتراكمات الفوضي وانفلات الإعلام والشارع علي نحو لم يشهده تاريخنا كله.. فحين يتهكم وزير الثقافة مثلاً من ¢بدانة¢ إحدي الموظفات بوزارته. ولا يري في ذلك ما يستوجب ¢ الاعتذار ¢ رغم تدخل رئيس الحكومة بنفسه للمصالحة بين الوزير ومرءوسته وهو الأمر الباعث علي الدهشة أيضًا.. وحين لا يعتذر وزير التعليم عن واقعة ¢حرق الكتب¢ بإحدي المدارس رغم إحالته وكيلة وزارته بالجيزة للتحقيق. رافضاً فعلتها رغم تأكيدها أنها أبلغت مكتب الوزير بذلك ولم تتلق اعترضاً منه.. فكيف نفسر ذلك وأيهما نصدق.. الأغرب أن يبدي الوزير تعاطفه وتفهمه لحسن نوايا مديرة المدرسة التي وقعت الواقعة في دائرة مسئوليتها.
أمر الاعتذار لا يشغل بال وزراء ومسئولين كثيرين عندنا. بخلاف اليابانيين مثلاً الذين لا يكفون عن المراجعة والمحاسبة والاعتذار كلما دعت الحاجة لذلك.. لكن ما يحدث عندنا هو تبرئة كل مسئول لنفسه وغسل يديه من أوجه القصور إذا انكشفت.. فكيف نفسر أيضاً ما وقع في حرم جامعة القاهرة منذ أيام وتحديداً أمام كلية الآداب من معارك دامية بين الأمن الإداري وبعض طلبة الإخوان.. ومن سمح بدخول السنج والمطاوي والشماريخ إلي الحرم الجامعي.. وهل خرج علينا مسئول ليعتذر ولو عن تقصيره في مراقبة أداء مرءوسيه.. كلا.. وألف كلا.
¼ أما شريف الشوباشي صاحب الدعوة للتظاهر ضد الحجاب فكان حريا به أن يعتذر ويتواري خجلاً لأنه ببساطة يجدف ضد ثقافة وقيم وطنه. ناهيك عن تحريضه ضد ما يعتبره فقهاء فريضة إسلامية بنص القرآن والسنة.. فما الفائدة التي تعود علي مصر من مثل تلك الدعوة الشيطانية.. أليس في ذلك تغذية لتيار التطرف وإشعال لمواقد الإرهابيين الذين يجدون في مثل تلك الأفكار ذريعة لنشر أفكارهم وبيئة خصبة للتمترس خلف شعارات تتاجر بالدين وبالمشاعر البريئة للشباب المسلم الغيور علي دينه.. هل هذا وقته يا شوباشي.. هل هذا يساعد الدولة في حربها ضد الإرهاب والعنف والقتل الممنهج الذي تمارسه ميليشيات الإرهاب ضد رجال الجيش والشرطة.. هذه في رأيي نكبة وانتكاسة ضد حرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد.. واستخفاف بمشاعر السواد الأعظم من هذا الشعب المتدين بفطرته.. وكان أولي بصاحبنا أن يقف عند حدود المطالبة مثلاً بتمكين المرأة أو الدفاع عن حقوقها كما يفعل عتاة الليبراليين.. أما هذه الشطحات وافتعال معارك تلهي وتزيد التوتر في المجتمع في وقت نحن أحوج ما نكون إلي التوحد والتوعية بمخاطر المرحلة الحرجة.. فهذا ما لا يدعو لإحسان الظن بصاحبها.
المدهش أن الشوباشي لم يقدم مبرراً واحداً مقبولاً لهذا المسلك المعيب وبدت دعوته متهافتة لا تعدو أن تكون مجرد شو إعلامي وتفاهة مموجة.
¼ وفي السياق الصخب والشو الإعلامي نفسه في معالجة قضايا خطيرة تتصل بالدين كنا نرجو لو أن صاحب قناة ¢القاهرة والناس¢. وكذلك المدعو ¢ إسلام البحيري ¢ الذي يلقب نفسه ب ¢باحث إسلامي¢.. لو أنهما خرجا باعتذار عما أثاره الأخير من لغط وجدل مموج لن يفيد الوطن في شئ.. بل بالعكس زاد الطين بلة. والجدل سجالاً وسفسطة واجتراءً علي الدين. كما كشفت مناظرته أمام د. أسامة الأزهري الأستاذ بجامعة الأزهر والحبيب الجفري الداعية الإسلامي عن جهل فاضح وسطحية. فالمناظرة رغم نجاحها في كشف تهافت البحيري ما يدفعنا للظن بأن هدفه من إثارة القضية لم يكن تجديد الخطاب الديني كما زعم بقدر ما كانت سعياً للشهرة وطلباً لزيادة نسب المشاهدة لبرنامجه لكنه للأسف بدا مفتقداً احترام الآخر وثبات الموقف. كما تورط في مزالق فقهية واضحة. رافضاً ما ارتضاه لنفسه. واصفاً غيره بالتخلف. وصادر علي غيره حق توجيه النقد إليه. وارتضي لنفسه ¢الاجتزاء¢ المخل من كتب وأحاديث وروايات. فضلاً علي استخدامه المجحف لمصطلح ¢إجماع الفقهاء¢.. لكن المناظرة أثارت بلبلة ومثلت تضييعاً للأولويات الواجبة للوطن والأمة في مفترق طرق.. بين حدود يهددها الإرهاب وأطماع خارجية. ودولة تبحث عن انتعاشة اقتصادية وترجمة فعلية لنجاحات مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي. ناهيك عن مجافاة الهم اليومي لملايين المصريين الباحثين عن فرص أفضل في الحياة أو عن لقمة العيش.
المذيع خيري رمضان أدار المناظرة بحنكة وسعة أفق. ونجح الأزهري والجفري في تفنيد دعاوي البحيري وافتراءاته. وأكدا اقترابه من فكر القيادي الإخواني سيد قطب. واجتزاءه أقوال الأقدمين وطعنه في التراث بشكل عام والأئمة الأربعة بوجه خاص.
المدهش أن يعترف البحيري صراحة بأن منهجه هو الهدم التام للتراث وليس لمجرد النقد فقط. وقد كشفت المناظرة منهجه التشكيكي الوهمي وأطروحاته المنقولة نصاً عن مستشرقين. وهي أطروحات مضطربة مندفعة. وكان خطؤه الجوهري هو تصوره أن الدين ليس علماً. ومن ثم قال د. أسامة الأزهري عنه إنه مشروع مستنسخ من شبهات المستشرقين. حيث يعتمد علي استراتيجية محددة هي الاجتزاء والقفز من مسألة لأخري. فأطروحته ظاهرة يمكن تسميتها ب ¢الضجيج¢ و¢التشغيب¢ حيث ينادي ¢البحيري¢ كما نادي سيد قطب بتحرير الإسلام من جهود العلماء منذ القرن الثاني الهجري والدخول للقرآن من دون أدوات لفهمه..
لقد ألقي سيد قطب بتراث العلماء كله. وسماه تراثاً جاهلياً في كتابيه ¢التصوير الفني للقرآن¢ و¢الظلال¢.. وكانت النتيجة أن أخرج لنا فكر سيد قطب منظومة التيارات الدموية بداية من التكفير والهجرة. مروراً ب ¢الجهاد¢. وانتهاء بالقاعدة وداعش.
¼ أما تجديد الخطاب الديني الحق كما يراه د. الأزهري فمعناه إزالة كل ما يتم إلصاقه بالشرع الشريف من مفاهيم مغلوطة أو تأويلات منحرفة أو اتهامات قبيحة تصف تراثه ومناهجه وعلومه بالعفن والقمامة مثلما وصفه البحيري حتي يتحرر دين الله من كل تلك الأغلال التي تحير الإنسان. مع الحرص في الوقت ذاته علي تشغيل مصانع الفكر التي تسلل الصدأ إلي تروسها ومفاصلها فتجمدت وعقمت لتعيد صناعة العلماء المتمكنين وإنتاج الفقه والفكر المنير الذي يحافظ علي مناهج الفهم وتحقيق مقاصد الشرع. ويبني منظومة الأخلاق ويحفظ الوطن ويحقق العمران ويكرم الإنسان.
¼ الأزهري دعا أيضاً إلي حرية الفكر وإعمال العقل والإبداع العلمي الذي يمكنه بناء المعرفة وصناعة الحضارة ورفض المنع والقمع ومقاضاة أي أطروحة فكرية مهما تكن.. فالفكر لا يواجه إلا بالفكر وصراع العقول مفيد علي كل حال لأنه هو الذي يولد الحضارة. وأنه لا تقديس لأشخاص ولا لمناهج أو لكتب علماء ولا تدنيس لها في الوقت ذاته.. فثمة فارق بين النقد العلمي النزيه والاعتداء أو التطاول والتدمير الممنهج لكل شئ كما فعل البحيري وغيره ممن نصبوا أنفسهم باحثين إسلاميين.. ولا أدري من أسبغ عليه هذه الصفة الأكاديمية.
إننا أمام ظاهرة لا تكفيها المناظرات أو السجالات أو التراشقات اللفظية وإنما تحتاج لخروج شيخ الأزهر الجليل إلي الناس لإظهار براءة الدين من سفك الدماء وحماية ثوابته وتخليص كتب التراث من أي زلات تسربت باجتهاد خاطئ أو حسن نية استغلها خصوم الإسلام للإساءة إليه والسخرية من رموزه.. هذه أمانة لا يقدر علي حملها إلا الأزهر لتطوير الفكر الديني وإصلاح منظومة الثقافة والتعليم لقطع الطريق علي مروجي الفكر المتطرف المنحرف أو التشكيك في الثوابت.
الاعتذار الثالث الذي لم نره وكان ينبغي أن تبادر به الفضائيات كافة التي تحاملت علي الحكومة بشدة بسبب انقطاع الكهرباء عن مدينة الإنتاج الإعلامي.. بينما غاب الحماس عنها في قضايا مصيرية تهم الوطن.
آن الأوان لكي ينهض الأزهر بدوره في تجديد الفكر الديني حتي يكف المتنطعون و الرويبضة عن إقحام أنفسهم في شئون هم أقل من أن يخوضوا فيها.