المساء
محمد جبريل
الحياة في القراءة
لست أذكر متي اكتشفت مكتبة أبي. ولا أول ما قرأته فيها.. كانت في موضعها من الأرض إلي السقف. في الزاوية بين الشرفتين اللتين تطل إحداهما علي شارع إسماعيل صبري. وتطل الثانية علي شارع رأس التين.. كانت في موضعها من قبل أن أولد. وأمضيت الساعات بالقرب منها. وأنا مشغول باللعب قبل أن أدخل المدرسة. ثم وأنا مشغول بتهجي الحروف. بعد أن أصبحت تلميذاً في روضة مصر الفتاة بشارع صفر باشا.
لست أذكر اللحظة التي لاحظت فيها أن هذه مكتبة أبي. وأن ما بها يضيف إلي تدربي العفوي علي القراءة في إعلانات السينما ولافتات الدكاكين. في أثناء عودتي من الروضة.
ما أذكره أني في لحظة - لا أذكر زمنها علي وجه التحديد - قررت أن أحاكي ما في هذه الكتب. وأكتب مثله.
***
بعد أن يعلو أذان العصر من جامع سيدي علي تمراز. أقف في البلكونة المطلة علي شارع إسماعيل صبري. نظرتي لا تحيد عن بلكونة الجيران المقابلة. أتوقع إشارة من صديقي عبده خادم الجيران.. هل أنتظر. أو أنه لن يكون - هذا الأصيل - بمفرده؟
يشير. فأعرف أنه يمكنني الذهاب إليه.. جلس بالبيجامة والحذاء الكاوتش. علي بسطة السلم. أمام الشقة الخالية من أصحابها. يضع عبده مجموعة من المجلات: المصور.. الاثنين والدنيا.. اللطائف المصورة إلخ.. أقبل علي قراءتها.. أنسي كل ما حولي. حتي الأقدام الصاعدة والنازلة. أميل بأعلي جسدي لأفسح لها طريقاً. وأعود إلي القراءة. عالم حافل بالشخصيات والأحداث والأخيلة والرؤي والتصورات. أعود إلي العالم المحيط بي علي لهجة عبده المحذرة: خلص بقي.. أصحاب الشقة زمانهم جايين!
***
لم يعد صعود الدرجات إلي مبني دار المحفوظات بالقلعة مقصدي الوحيد. كنت أنفذ في الإطلاع علي الصحف القديمة والمخطوطات. قراراً - اتخذته بيني وبين نفسي - بأن أقرأ كل ما أستطيع قراءته. وإن أفدت من القرار. فيما بعد. علي نحو علمي. في كتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين".
ملت - بعفوية - أعلي الجبل.. نظرت من الحافة إلي المقابر في أسفل: أحواش. تتوسطها شواهد وأشجار صبار. وتحدها أسوار من الحجارة البيضاء والصمت. تمتد من بعدها بيوت القاهرة وشوارعها ومآذنها وانطلاق الخضرة في مدي الأفق.
بدَّلت ما ألفته. فأنا أميل إلي جانب الجبل. بما يتيح لي النظر إلي اتساع المشهد أمامي.. أتأمل. وأعاني اصطحاب أفكار ورؤي وتطلعات. لا أدري أيها سيجد سبيله إلي التحقق في المدينة التي غابت في سكونها السادر - من وقفتي أعلي الجبل - صورة حياتها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف