أثناء خروجى من باب شقتى، رأيت جارى الأستاذ عبدالحق أبوعبدالودود، المدرس بمدرسة «الحضارة والتنوير» الثانوية، يتجه إلى باب شقته حاملاً بضعة أرغفة ولفافات من سندوتشات الفول والطعمية والبطاطس؛ فبادرته:
- صباح الخير يا أستاذ «عبدالحق».. هل أنت فى إجازة اليوم؟!
- لا.. أنا متفق مع مدير المدرسة أتأخر ساعتين الثلاثاء والأربعاء والخميس.
- إشمعنى الثلاثاء والأربعاء والخميس؟
- الثلاثة أيام دول أنا -حسب الجدول المنزلى- بحضر الفطار والغدا والعشا وأغسل الهدوم والمواعين وأمسح الشقة.
ثم مستدركاً:
- هن شياطين خلقن لنا.. ما انت عارف..
- وهى؟!
- هى مش حاتقطع نفسها.. بتشتغل فى (3) سنترات.. دا غير الدروس الخصوصية.. الله يكون فى عونها.
- بالمناسبة.. قريت خبر الفضيحة التعليمية الجديدة.. المعلمة الإرهابية اللى داست على رقبة تلميذ فى سنة ثانية إعدادى.
- أيوه.. دى شدته من قميصه ورمته على الأرض وداست عليه.. بتعاقبه علشان صَفّر فى الحصة.. بسيطة..
هتفت فى دهشة بالغة.
-بسيطة؟!
- أنا مراتى من نحو أسبوعين ضربت تلميذة عندها بمسدس الشمع اللاصق وعملت لها جرح قطعى فى رأسها.. بعدما كوَت لسانها بمعلقة سخنة..
- وكانت إيه النتيجة؟!.. قصدى العقاب؟!
- نقلوها مدرسة ثانية.. علشان تواصل رسالتها السامية.. وفعلاً من أول يوم جلدت طالبة بسلك كهربائى أربعين جلدة..
- مش ممكن..
هتف مؤكداً:
- لا، ممكن.. إنت عارف إن (38%) من الأزواج بينضربوا من زوجاتهم؟!
- لا.. لا.. اسمح لى.. السيدة المعلمة الفاضلة مراتك.. والإرهابية اللى داست فوق رقبة التلميذ دول ضحايا تربية خاطئة.. وتعليم ردىء.. وظروف اجتماعية واقتصادية سيئة صنعت منهم شخصيات سيكوباتية المفروض تخضع حالتهم للتحليل النفسى والاجتماعى..
- أنا موافقك.. لكن ضرورى المساواة فى العقاب برضه.
- قصدك مايبقاش فيه تمييز بين المعلم والمعلمة فى العقاب؟!
- لا.. بين المعلم والطلبة.. إحنا كل يوم بننضرب أمام باقى الطلاب والمدرسين وبنتعرض لإهانات يومية من الطلبة المشاغبين دون التدخل من الإدارة التعليمية.. لسه من كام يوم زميل لنا ضربه تلميذ بالفصل ضرباً مبرحاً تسبب فى كسر ذراعه وارتجاج فى المخ.. فلما اشتكاه للمدير...
هتفت مقاطعاً مستنتجاً:
- لم يفعل شيئاً أليس كذلك؟!
- قال فى سخرية: أعلن استنكاره الشديد.. واستدعى فى الحال أستاذ اللغة العربية والخط بالمدرسة وطلب منه أن يكتب لافتة كبيرة يضعها على باب المدرسة تحمل عبارة استياء وتهكم هى: أغيثونا.. إن شعار طلبة 2016 الداعشيون هو: «قف للمعلم واضربه».. وليس قم للمعلم وفه التبجيلا.
- واضح إن الطالب ده تأثر بالمناهج الدراسية التى تحض على العنف..
قال فى غضب وانفعال:
- إذا كنت تقصد درس «الطيور فى خطر» الذى جاء فيه أن الطيور قامت بإغلاق الخيام وأشعلت النيران فى الصقور حسب الخطة.. وبعد اكتمال الخطة أنشدت العصافير: بلادى.. بلادى.. فهذا الدرس يدرس فى منهج اللغة العربية للصف الثالث الابتدائى.. والطالب الذى ضرب الأستاذ فى الثانوية العامة.. وبعدين الدرس ده حيتم حذفه من المنهج.
- وقصيدة «عمرو بن كلثوم» التى اعترف فيها بقتل ملك الحيرة بسيفه لأن أمه أهانت أم الشاعر..
وهناك بيت فى القصيدة يقول:
نشق بها رؤوس القوم شقاً.. ونختلب الرقاب فيختلينا.
- سبق أن مديرة مركز تطوير المناهج صرحت فى الصحف أنه تم أخذ قرار بحذف جميع الدروس التى تحض على العنف..
صِحت مؤكداً فى انفعال:
- يا أستاذ «عبدالحق».. ليس بحذف الدروس غير المناسبة يتم تطوير المناهج.. المركز اسمه مركز تطوير المناهج وليس مركز حذف دروس من المناهج..
- اللى أنا فهمته إن الخطة قائمة على الابتعاد عن أى دروس قابلة للتأويل لغلق كل الفرص أمام حدوث حالة من الجدل.
صِحت فى سخط:
- إن هذا يزيد الطين بلة.. من قال إن الجدل شىء ذميم ينبغى التخلص منه.. إن كانت هذه هى خطة مركز التطوير.. فإنه على العكس يكرس لنكبة التعليم فى مصر القائم على التلقين والحفظ وترديد ما تم حفظه كالببغاوات دون اجتهاد فى الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والبحث والمناقشة.. وتبادل وجهات النظر والحوار حول القضايا المثارة.. إن هذا معناه الجمود وعدم إعمال العقل.. والاستسلام للمسلمات وقوالب التعبير المتحجرة مما يؤدى فى النهاية إلى إلغاء الرأى والرأى الآخر.. وتدمير حرية التعبير والقضاء على أى تطوير وشيوع الاستبداد والإرهاب..
كما أن المناهج الدراسية للأسف قائمة على مواد وموضوعات لا تواكب طبيعة العصر ولا تتناسب بأى درجة مع مسيرة تطور البشرية.. فما زال أطفال الكمبيوتر والإنترنت يدرسون البساط السحرى «ومصباح علاء الدين» والأرنب «كوكى» الذى أغضب أمه لأنه رفض أن يلهو مع إخوته.. «والصقر الجرىء» الذى يحلق فى السماء شاهداً فى أسى على هزائم «عرابى» وانتهى به الأمر إلى السقوط ميتاً كمداً وحسرة من جراء الاحتلال البريطانى لمصر.. والولد «أسامة» الذى تحول إلى «عقلة الصباع» وركب فوق ظهر سمكة ضخمة ومعه أخته.. غاصت بهما فى أعماق البحار فاستمتعا برؤية الأعشاب المرجانية..
إن مشكلة المناهج ليست فقط -كما يتصور وزير التربية والتعليم- تكمن فى الحشو والتكرار للمعلومات.. ولكنها مشكلة تخلف وتراجع حضارى مخيف.. يحتاج إلى ثورة إصلاحية كبرى.
نقطة أخرى تتصل بواضعى المناهج الدراسية المختلفة لكل المراحل التعليمية: أليس من الغريب أن يكونوا من مفتشى وزارة التربية والتعليم؟!.. أنا لا أعرف حتى الآن سبباً منطقياً لعدم الاستعانة مثلاً بالشعراء الكبار أو نقاد الأدب المتخصصين لوضع مناهج النصوص والبلاغة والأدب.. وعدم الاستعانة بالأطباء النفسيين أو أساتذة علم النفس لوضع منهج علم النفس.. ولا فيلسوف معروف لوضع منهج الفلسفة وأستاذ علم اجتماع لوضع منهج علم الاجتماع وهكذا..
أعتقد أنه لا تحديث بدون إعادة النظر فى المناهج.. ولا تطوير بدون نسف المسلمات المستقرة العتيقة وأهمها تعمد إقصاء المتخصصين..