طه عبد العليم
دور المشروعات الكبرى فى التنمية
فى الملف المصرى، الذى يصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، نشرت مقالا عن »دور المشروعات الكبرى ـ مدخل للتنمية«. وقد أكدت ضرورة أن ينطلق أى تحليل اقتصادى لهذا الدور من تحديد دقيق لمفهوم التنمية، وبينت أن تقييم هذا الدور ينبغى أن يستند الى تحديد مدى ارتباطها الآنى والآجل بتعظيم الإنتاج والإنتاجية. وقد اتخذت نموذجا مشروع السد العالى، الذى تم بناؤه فى عهد الرئيس جمال عبد الناصر؛ باعتباره أحد أهم مشروعات البنية الأساسية فى القرن العشرين فى مصر والعالم.
ورغم الأزمة الاقتصادية المصرية الراهنة، التى عرفتها كل البلدان عقب الثورات؛ والمترتبة على إخفاقات النظام المُفَجِرة للثورة ومعضلات إدارة عملية بناء نظام جديد، يظل الأمل يحدونى فى التعلم من خبرة السد العالى والانتباه الى حتمية تسريع تحقيق التناسب بين الاستثمار فى المشروعات الكبرى- المنفذة وتحت التنفيذ- والاستثمار فى الإنتاج والإنتاجية فى عهد الرئيس عبد الفتاح السيسى، سواء فى ذلك مشروعات القناة وأنفاقها والطاقة والطرق والموانى والعمران وغيرها.
وقد تناولت فى مقالى المذكور دور السد العالى فى تحقيق سيطرة مصر على ايراداتها من موارد مياه النيل التى تمثل أساس حياتها، ثم دوره فى التنمية الاقتصادية والشاملة- ورافعتها تنمية الاقتصاد الحقيقى- عبر توفيره مرتكزات الارتقاء بعملية التصنيع وتوسيع فرص التنمية الزراعية، وفى المحصلة دوره فى تعزيز الأمن الاقتصادى والشامل- القومى والإنسانى- لمصر والمصريين. وسجلت أولا، أن بناء السد العالى كان ذروة دراما تاريخ الصراع الملحمى بين المصرى والنيل, حيث وصلت مصر بضبط النيل الى قمته ببناء السد العالى, فتحررت مرة واحدة والى الأبد من خطر الفيضان العاجز أو الجامح, رعب مصر القديمة ولعنة مصر الوسيطة, وانتهت ببنائه تراجيديا الفيضان السنوية. وبعد ثورة رى الحياض وهى الانجاز التاريخى الذى حققته مصر الفرعونية، كانت ثورة الرى الثانية وهى الإنجاز التاريخى الذى بدأه محمد على, واكتمل تعميمه ببناء السد العالى، الذى دخل معه ضبط النهر فى مصر مرحلة ثورية، ومثل انقطاعة جذرية مطلقة عن الماضى المائى فى مصر، وكتب فصلاً مستقلاً فى كتاب الرى المصرى؛ كما سجل جمال حمدان فى شخصية مصر. وكان مدخل التخزين المستمر- أو القرنى- داخل حدود مصر ببناء السد العالى قد فرض نفسه؛ بديلا للتخزين السنوى كما فى خزان أسوان، وبديلا للتخزين المستمر - أو القرنى باقامة سلسلة مشاريع البحيرات الاستوائية، وتؤكد النزاعات الراهنة بشأن سد النهضة الإثيوبى حكمة هذا الخيار. وثانيا، أن السد العالى قد ضاعف فرص التنمية الزراعية الأفقية والرأسية بفتحه آفاقاً وإمكانات مائية لا حد لها، ولا نظير من قبل، بحيث أضحى ممكنا وللمرة الأولى استغلال كل قطرة مياه واستغلال كل شبر من الأرض الصالحة للزراعة. وقد تمكن الإنسان المصرى بفضل السد العالى من تمديد المعمور المصرى إلى آفاق بعيدة وجديدة، بمده نطاق الرى إلى أقصى مدى يوسع حدود وادى النيل؛ فأصبحت نهاية البرارى كارثة العصور الوسطى التى أكلت الدلتا مسألة وقت فقط، وبدأت حواف الوادى الصحراوية وشبه الصحراوية تشهد زحفاً لضمها إلى المزروع؛ وصار ممكنا مد مياه إلى سيناء والصحراء الغربية شمالا وغربا وجنوبا.
وثالثا، أن عملية التصنيع بتعميق الصناعة التحويلية لم تنل دفعتها الحقيقية إلا بعد السد العالى وبفضل كهربائه المولدة. يرتبط مفهوم التنمية الاقتصادية ارتباطاً وثيقا بالتصنيع ودوره المحورى فى تغيير هيكل الاقتصاد، بالتحول من الأنشطة المنخفضة الإنتاجية الى الأنشطة المرتفعة الإنتاجية ذات الفرص الأكبر للابتكار وزيادة القيمة المضافة والارتقاء بتقسيم العمل والتغير التكنولوجى ووفورات الحجم وخلق المهارات والتعلم، كما تكشف خبرة مصر والعالم. ولم تتحقق الثورة الصناعية عبر الزمان والمكان سوى بتوسيع وتنمية قاعدة الطاقة اللازمة للصناعة التحويلية. ومع السد العالى بدأ عصر الكهرباء المائية، وأُقيمت الشبكة القومية الموحدة للكهرباء. وبلغت الطاقة الكهربائية المولدة من محطة السد العالى 6 أمثال استهلاك مصر قبل بنائها، وبجانب كهربة الريف وميكنة وتصنيع الزراعة، وإضاءة المدن والقرى وتوفير وقود محطات الكهرباء الحرارية القائمة، وفر السد العالى قاعدة الطاقة للتصنيع خاصة للصناعات التحويلية الثقيلة والأعلى إنتاجية. ويبرز هذا فى صناعات السماد والألومنيوم والحديد والصلب وغيرها؛ مما وضع مصر فى مطلع السبعينيات بين أكثر خمس دول تصنيع فى الجنوب.
ورابعا، أنه كانت لمشروع السد العالى، مثل غيره من مشروعات التنمية والبنية الأساسية الإنتاجية، آثار جانبية سلبية متوقعة. فمع الرى الدائم وارتفاع منسوب المياه، تشبعت الأرض بالمياه بها وطبلت إلى سطح التربة أملاح مركزة، بما هدد الخصوبة والزراعة. وكان الحل هو استكمال شبكة الصرف المكشوف والمغطى بما يرفع الإنتاج الزراعى بنسبة 30% فى المتوسط. كما أوقف السد العالى ورود الطمى فأوقف عملية التوسيع الأفقى للأرض المصرية على أطرافها، لكنه أتاح الموارد المائية لمزيد من الاستصلاح والاستزراع، واحتجز السد طمى النهر فاستشرى النحر فى قاعه وجانبيه، وكان الحل هو اقامة سلسلة من القناطر، التى تزيد إنتاج الطاقة الكهرومائية النظيفة والرخيصة. وقبل السد العالى كانت المياه الجوفية ترتفع مع الفيضان وتتجه إلى الخزان الجوفى حاملة معها أملاح الأرض الزراعية، لكنه مع انخفاض مستوى النيل على مدار السنة بعد السد الى أدنى من منسوب المياه الجوفية السطحية أصبح النيل بمثابة مصرف كبير للأراضى المتاخمة، والأهم أن عائد السد فى السنوات العشر التالية لبنائه بلغ 20 مرة مثل ما أنفق عليه، وهو معدل استثمار يندر مثيله فى مشروعات البنية الأساسية الإنتاجية.