جمال سلطان
الشروط الموضوعية لإنقاذ الوطن ما زالت غائبة
سواء كنت من مؤيدي السيسي أو من معارضيه أو أنك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، لا يمكن لإحساسك أن يتجاهل أن البلد ليست في حال طبيعية ، الجو مشحون بالتوتر والخوف والقلق ، الخوف من المجهول ، مما يمكن أن يحدث غدا ، الكل على إدراك أن هذه الأوضاع التي تعيشها البلاد ليست طبيعية ، أنصار الرئيس يصفونها بأجواء حرب وأن البلاد تعيش ما يشبه تلك الأجواء والبعض برر الإجراءات الاقتصادية القاسية الأخيرة بأنها ضرورة مثل "اقتصاد الحرب" ، واقتصاديات الحرب وقرارات الدولة في الحرب لا تعبر عن أوضاع عادية وإنما أوضاع قلقة ومتوترة ومستنفرة للمفاجأة المحتملة ، والتي لا تعرف على وجه اليقين ما ينتج عنها ، كما أن الحديث الدائم عن أجواء الحرب لا يخدم الاستثمار الذي تبحث عنه الدولة الآن ولا يشجع السياحة التي نعمل على تنشيطها ، وهناك من هو مستنفر وقلق من ردود أفعال السلطة "المتوترة" من استعصاء الواقع عليها واتساع الهم وتوالي الأزمات ، هناك قلق من إجراءاتها المتوترة هي الأخرى ، سواء كانت إجراءات سياسية وقمعية أو كانت اجراءات اقتصادية ومعيشية تفاجئهم بها كل عدة أشهر ، الكل قلق ، والكل يضع يده على قلبه ولسان حاله أو مقاله يقول : الطف يا رب بنا وبالبلد . هذه الأجواء التي يجمع الكل في مصر ، مؤيدا ومعارضا ، حكومة وشعبا ، على أنها غير طبيعية ، لا يمكن أن تكون أجواء ملائمة لإصلاح اقتصادي أو نهضة أو إنقاذ للبلاد من عثرتها ، أنت لا تعمل مع حجارة ولا "روبوت" إنسان آلي ، أنت تنفذ خططك ومشروعاتك وأفكارك من خلال "بشر" ، وهؤلاء البشر ما لم يشعروا بالأمن والأمان والثقة والمشاركة والجدية والشفافية فلن يمكنهم ترجمة أي فكرة على أرض الواقع بشكل صحيح ولا إيجابي ، الكل سيعمل على طريقة "سد الخانة" إن لم يتعمد تخريب العمل نفسه ثأرا من تهميشه أو كراهيته إن كان من معارضي السلطة الحالية أو من يشعر معها بثأر سياسي ، وحتى غير المعارض ، لن توجد لديه الهمة للتفاني والإصرار على النجاح ، لأنه لا يثق في أن الأمور في أيدي جادة وجديرة بثقته ، ويرى من حوله محيطا غارقا في الفساد ، وهو ما لم ينكره الرئيس نفسه ورئيس الوزراء ، ومن يفكر في ملاحقة الفساد أو الشكوى من الفساد أو الإبلاغ عن الفساد أو حتى يتحدث عن الفساد تتم ملاحقته والتنكيل به واعتباره متورطا في جريمة خيانة للوطن ، أو تتم محاكمته والتنكيل بأسرته وضربه في قوت أولاده كما جرى مع هشام جنينه ، أو ملاحقته أمنيا بتهمة نشر أجواء متشائمة على النحو المدهش الذي حدث في بعض الأحداث الأخيرة ، فمثل هذا المواطن كيف تطلب منه أن يتفانى وأن يخلص وأن يبدع . أيضا ، نحن في دولة أصبح لها "أجندة" مختلفة لليوميات ، وتقويما خاصا مرتبطا بالأحداث السياسية الغاضبة ، مثل "تقويم الشمرلي" ! ، ففي 25 يناير تستنفر الدولة والأجهزة والشرطة والحكومة استعدادا لموجة غضب محتملة ، وفي 30 يونيه من كل عام استنفار أيضا لموجة محتملة للذكرى المعروفة ، وهناك استنفار لذكرى مذبحة محمد محمود ، وهناك استنفار لذكرى ماسبيرو التي أثارت فزعا قبل عدة أسابيع ، وهناك استنفار لذكرى مذبحة بورسعيد ، وهناك استنفار لذكرى مذبحة رابعة ، هذا ناهيك عما يستجد من "الأيام" مثل تلك التي يتحدثون عنها يوم 11 نوفمبر المقبل ، بلد مستنفرة ـ حكومة وشعبا ـ للخطر والخوف والتوتر والترقب كل عدة أسابيع على هذا النحو بدون أمل في وقف هذا المسلسل ، كيف يمكنها أن تبني مستقبلا بثقة ، وكيف تنجز ، وكيف تشعر بالاطمئنان ، سواء كانت السلطة أو الشعب ، خاصة عندما تكون بإزاء سلطة معاندة وراكبة رأسها ، وتصر على أنه لا توجد مشكلة ، وأن البلد كلها على قلب رجل واحد ، ولا تعطل المسيرة تلك القلة "الثورجية" أو الينايرجية كما يوصفون . لن نمل من التذكير بأنه لا إصلاح اقتصادي ناجح بدون إصلاح سياسي ناجح وشامل ، ومصالحة وطنية حقيقة ، وعدالة انتقالية تصفي مرارات ما مضى ، خاصة في بلد يعصف بها الانقسام السياسي والمجتمعي بدرجة تتسم بالكراهية والغل والأحقاد والمرارة ، يستحيل أن تبني فيها أو تنجح اقتصاديا ، لأنك ـ بداهة ـ بحاجة إلى أن يحتشد المجتمع كله معك ، وتكون البلاد كلها في ظهرك ، ويشعر الجميع أن التحدي لهم جميعا ، وأن المستقبل لهم وهم الذين يصنعونه ، ولا يصنعونه إلا إذا كانوا شركاء في القرار ، ومحفوظي الكرامة والإرادة والصوت . وكذلك الإصلاح الاقتصادي نفسه لا يمكن أن ينجح إلا من خلال منظومة كاملة ، ماء الحياة فيها هو الشفافية الكاملة ، فلا مكان للفاسدين ، ولا مكان للمطبلين ، والصدارة للموهبة والإبداع والعطاء والتفوق والعرق وليس للنفاق والتزلف للسلطة لانتزاع جزء من كعكة المكاسب المجانية والاعتباطية على حساب المال العام وعلى حساب الجادين والعاملين فعلا على إنقاذ الوطن ، والإصلاح أيضا لا يمكن من غير وجود رؤية شاملة وناضجة وواقعية ومقنعة تولدت من حوارات خبراء وعلماء ومواهب وشراكة وطنية من الأحزاب والقوى المدنية وبيوت الخبرة وأساتذة الجامعات ، وليست بقرارات فوقية التمعت في رأس الزعيم أو بعض حوارييه فطرحوها للتجريب . مصر ليست بلدا صغيرا بحيث يتحمل المخاطرة والتجارب وبعض النزق ويصبر على عواقبها ، مصر تسعون مليون إنسان ، ومسئوليات إقليمية ضخمة وإرث حضاري وتاريخي ثقيل ، وهو ما يستوجب التعامل مع همومها بصورة أكثر جدية وأكثر إحساسا بالمسئولية الوطنية .