الأهرام
يسرى عبد الله
الغزو الجديد للسماسرة
لم تكن الإنسانية فى أى لحظة من لحظاتها بحاجة إلى سماسرة، لكنها لم تخل يوما من متاجرين بكل شيء، من الأوطان إلى الأديان، ومن المعرفة إلى الثقافة، ومن المنطق إلى الفنتازيا، ولم نر يوما هذا القدر الهائل من الرطان حين يبرر للسلطة كل ما تفعله، أو حين يساوم بورقة الجماهير التى لا يعرف معاناتها الحقيقية، ومن ثم فشلت النخبة فى أن تخلق سياقا مختلفا، ينحاز إلى الناس فى بحثهم المستمر عن عالم أكثر عدلا وجمالا وإنسانية.

ينتج سماسرة السياسة رطانا مراوغا، فيرفعون راية الجماهير بيد، بينما يغتالون باليد الأخرى أحلامها فى العدالة الاجتماعية، يساوى السماسرة بين الإرهابى والضحية بقلب بارد، ويصنعون للتطرف غطاء نظريا، ويقدمون أنفسهم بوصفهم تقدميين تارة، وليبراليين تارة أخري، على الرغم من أن الدواعش تسكنهم، وتخلق جوهر خطابهم الفارغ.

يبدو الوطن للسماسرة حفنة من تراب، يتعاملون معه بوصفه ولاية تابعة لخلافة مبتغاة، يرونه حلما للدولة الدينية بتجلياتها الإخوانية والسلفية والداعشية، لا يعرف السماسرة سوى الاستبداد.

ثمة غزو جديد للسماسرة، يريد تسييد مشهد من الجهل والعتامة، فسماسرة الثقافة تراهم مشغولين بمكاسبهم الرخيصة، يدشنون القبح، ويعيشون على الخفة التى تصبح لديهم حجة على العمق، يكرهون الثقافة الحقيقية كراهية الضحالة للمعني، هؤلاء هم الشماشرجية الجدد، يتلونون كل صباح، فيصفون منظر التطرف والإرهاب سيد قطب بأنه مناضل خط لأتباعه طريقا فى النضال! !، ثم يقدمون أنفسهم بأنهم طليعيون وتقدميون! فى تبجح لا يليق سوى بغوغاء وصفهم ماركس نفسه بأنهم فى الخدمة الدائمة لمكائد الرجعية.

وسماسرة الثقافة موظفون بلهاء، لا ولاء لديهم لقيمة، ولا إيمان بمبدأ، ينتجون الرداءة، ويسعون صوب تغييب العقل، يسكنون مؤسسات ثقافية بآلية تحركها الخرافة، خيالهم بليد، وقديم، ونظرتهم للعالم استهلاكية محضة، خائبة وتعيسة فى آن.

ما الذى يدفع هيئاتنا ومؤسساتنا المنوط بها جانب من تشكيل العقل العام إلى الفشل والإخفاق؟ هذا السؤال هو عين الحقيقة الراهنة، فالأداء المترهل لوزارة الثقافة يكشف عن خلل شديد فى إدراك معنى الثقافة وماهيتها والدور المركزى الذى يجب أن تلعبه فى تحرير الوعى المصري، وتجديد حيوية الأمة المصرية، والمحصلة النهائية أن العبث يهيمن بقوة على مقدرات الثقافة الرسمية، من الشكل الكرنفالى الذى لا يصل إلى الجوهر للاحتفاليات والمؤتمرات والمعارض المختلفة، إلى تغييب قيم الكفاءة والنزاهة والشفافية.

ولعل واحدا من أكثر الأمثلة دلالة على هذا التراجع المخزى للثقافة، حالة التضارب بين هيئات الوزارة المختلفة فيما يتعلق بالنشر، حيث نرى كتابا يطبع فى الهيئة العامة لقصور الثقافة، ثم نرى الكتاب نفسه يطبع بعدها فى شهرين فى الهيئة العامة للكتاب، بما يكشف غيابا للتنسيق بين المؤسسات المختلفة، واعتقادا راسخا لدى رؤسائها بألا أحد يحاسب أحدا، هذا المنطق نفسه هو عين ما يتبناه الوزير نفسه حين يخرج بتصريح ثم ينفيه بعد اشتعال مواقع التواصل الاجتماعى أو انتقادات البعض لغياب الحصافة السياسية فى لحظة فارقة من عمر الدولة المصرية.

فصناعة النشر التى كانت مصر تملك أحد مفاتيحها، تتراجع الآن على نحو لافت، ويكفى أن تنظر إلى شكل المطبوعات التى تخرج من مطابع هيئة الكتاب على سبيل المثال، لتكتشف أن ثمة خللا أصاب صناعة الكتاب فى مصر، فسياسات النشر تظل بحاجة إلى مراجعة حقيقية، فكثير من الشعراء الحقيقيين ينشرون خارج المؤسسة الرسمية، وهكذا يفعل كثير من الروائيين والمفكرين، فأصداء التراكم الإبداعى التى حدثت فى الآونة الأخيرة تظل باهتة ومحدودة للغاية، والناظر إلى مطبوعات الهيئة يجد ذلك واضحا بغير عناء، بدءا من الترجمات لشعراء مصريين مغمورين لا يعرفهم القاريء المصرى ذاته، وتقديمهم للقاريء الغربي، بوصفهم ممثلين أصليين للمشهد الإبداعى المصري، وبما يعكس ضربا لكل قيم النزاهة والشفافية، أو ترجمة كتابات قديمة مقطوعة الصلة باللحظة الراهنة، بدعوى تصحيح صورة الإسلام، وهو رد عبثى بامتياز، سيصبح مثلا سائرا فى يوم ما، فحين تسأل مسئولا حكوميا: لماذا تمت ترجمة كتاب «الوعد الحق» للمفكر طه حسين؟، وألم يكن فى أعمال الرجل الفكرية الملهمة لأجيال فى الشرق والغرب كتب أخرى تبرز الإسهام الحضارى العربى فى متن الثقافة العالمية، فيرد عليك بهذه الثقة المفرطة التى تليق بالعاملين فى الكتاتيب القديمة، من الذين يحفظون ولا يفهمون. وبعد.. تبدو مواجهة السماسرة انحيازا للقيمة فى مواجهة اللا معني، انتصارا للجمال فى مواجهة القبح، حفاظا على تلك الروح المتجددة لناسنا من المقموعين الذين سحقهم سماسرة السياسة. فثمة أشياء نبيلة لا تعرف المساومة، وثمة معنى للثقافة لا يعرف الزيغ أو الهوي، وثمة قيم فكرية وجمالية تدفعنا صوب الدفاع عن المعنى الأنبل فى ثقافتنا الوطنية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف