خالد عكاشة
صراع الأجهزة العميقة قبل الحسم الأمريكى
ما الذى دفع مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى للدخول بشكل مفاجئ على خط انتخابات الرئاسة الأمريكية فى تلك المرحلة الحاسمة؟ خاصة أنه يمكن توصيفه بضربة إجهاض المائة متر الأخيرة رغم عدم تشكل يقين ما حول ملامح الألم المتوقع، فقد كشف مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى «جيمس كومى» للكونجرس، أواخر الأسبوع الماضى، مفاجأة من العيار الثقيل، حين صرح بأن إدارة المكتب الفيدرالى أعادت فتح التحقيق فى فضيحة البريد الإلكترونى لهيلارى كلينتون، الأمر الذى فاجأ الشعب الأمريكى، فى حين أثار حنق الديمقراطيين ومَن فى صفهم، وهو الأمر الذى أطلقوا عليه اسم «التدخل السياسى» قبيل برهة قصيرة من يوم الانتخابات الرئاسية، فى نفس الوقت رأى أعضاء الحزب الجمهورى أنه لا يمكن تصديق أن الرجل نفسه الذى رفض توجيه اتهامات ضد وزيرة الخارجية السابقة فى الصيف الماضى، يقوم الآن بفعل الشىء الصحيح، وتصويب الخطأ المحرج الذى حدث سابقاً.
ربما ادعاءات الديمقراطيين حول «التدخل السياسى» لا أساس لها من الصحة، لأنه من حق الشعب الأمريكى معرفة أى سلوك غير قانونى من قِبل أحد المرشحين للرئاسة، خاصة بعد الفضيحة الجنسية لزوج «هوما عابدين»، مساعدة «كلينتون» المقربة، على أقل تقدير من الاتهام، «هوما عابدين» مذنبة بالكذب تحت القسم حول تعاملها مع أجهزة الاتصال المتعلقة بالعمل التى تحتوى على رسائل البريد الإلكترونى السرية، مما يثير تساؤلات جدية حول جدارة السيدة التى ستعتمد عليها هيلارى كلينتون بشكل رئيسى فى حال فوزها بالانتخابات، وهذا أقلق ملايين الأمريكيين من أن «هيلارى» لا تقوم بالتصرفات التى تدل على حنكة سياسية، ولديها سوء فادح فى الإدارة.
مكتب التحقيقات تحت يديه الآن مجمل الأدلة المكتشفة بأن هيلارى كلينتون فاسدة إدارياً، لكن لماذا فى هذا التوقيت؟ وهل هذا الأمر سيقنع الناخبين بأنها ليست جديرة بالفوز بأصواتهم؟
«الأجهزة العميقة» تعبير مختصر للحديث عن الجيش وكذلك الاستخبارات والإدارات الدبلوماسية، وبحسب المصادر الأمريكية، يفترض أن «هيلارى» تلقت دعماً من مصادر رفيعة المستوى فى وزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيدرالى بسبب فترة ولايتها كوزيرة للخارجية، وعلاقة باراك أوباما الوثيقة مع النائب العام، فى حين يحظى دونالد ترامب بتأييد عملى فى وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاجون، مثل رئيس وكالة استخبارات الدفاع السابق «مايكل فلين»، الذى يفهم بشكل صحيح مدى خطورة سياسة هيلارى كلينتون الخارجية على الدول الأخرى فى العالم، وقد تم تداول تقارير فى الصحافة الأمريكية بأن المعنويات بداخل مكتب التحقيقات الفيدرالى فى أدنى مستوياتها بين الموظفين الحريصين على سمعة المكتب التاريخية، وقد خرج هذا للصحافة الأمريكية علناً على نطاق واسع فى عنوان الـ«نيويورك بوست» أول أكتوبر، وهو: «عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالى على استعداد للتمرد على التحقيق حول أداء هيلارى كلينتون»، الواقع العملى من داخل أروقة تلك الأجهزة أن الجزء السفلى من الهرم لا يدعم بالضرورة قمة السلطة، وفى هذه الحالة يبدو أن وكلاء مكتب التحقيقات قادوا ثورة صامتة ضد قيادة «جيمس كومى»، وقد تحركوا ضمن الحدود القانونية فى الإطار المهنى وهم على دراية كافية بأنه انقلاب كامل غير قابل للتنفيذ، لكن سلاح ضربتهم لسلطته هو التسريب المستمر للصحافة لإحباطهم، والحقيقة البسيطة هى أن سمعة مكتب التحقيقات قد تدمرت بالفعل فى أعين الرأى العام الأمريكى، الذين يرون الآن أن المخابرات المحلية وهيئة إنفاذ القانون امتداد شبه عسكرى للحزب الديمقراطى، وما يراهن عليه أطقم الوكلاء والعملاء الممسكين بدفة الأمور هو إظهار أنهم يعارضون مديرهم بغض النظر عن الخارطة الحزبية.
«خيانة جيمس كومى»، كما يصفونها بداخل مكتب التحقيقات الفيدرالى، تمثلت فى رفضه توجيه الاتهام لـ«هيلارى» أول الصيف الماضى على الرغم من الأدلة الدامغة التى أثبتت أنها تماماً كما الرئيس أوباما خرقت القانون فى انحياز حزبى فاضح، ولذلك عندما اكتشف الوكلاء بالمصادفة أدلة جديدة تتعلق بالقضية عندما كانوا يحققون بفضيحة «زوج هوما عابدين» والرسائل ذات المحتوى الجنسى، من الممكن توقّع الموقف الصادم والأحاديث التى دارت داخل مكتب التحقيقات، حيث بدأ الوكلاء يهددون بأنه من الممكن تسريب القضية للصحافة بأنفسهم.
لقد خان «جيمس كومى» مكتب التحقيقات الفيدرالى فى مرحلة القضية الأولى، لذلك لا يمكن لاحقاً أن ينسب إليه أنه وبشكل مفاجئ أصبح لديه تغيير كامل لإنقاذ سمعة المكتب. إنما الأكثر منطقية أنه يقوم بخطوة تحمل شكلاً من الحماية لنفسه فى حال وصل «ترامب» للسلطة وقرر أن يجرى تحقيقاً حول هذه التفاصيل التى يتابعها الجمهوريون عن كثب، أو أن يهزم فى السباق الرئاسى فيلجأ لاتخاذ إجراءات قانونية ضد هذه العملية والمتعاونين من قيادات «الأجهزة العميقة»، ويتصور بالطبع أن تكون إجراءات بطعم التشهير الفادح والواسع النطاق، أو هكذا يبدو من سلوك وتهديدات «ترامب» حتى الآن، لذلك لم يجد «جيمس كومى» مخرجاً فى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، سوى بالإعلان غير المسبوق عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالى كان قد أعاد فتح التحقيق مع أحد أبرز المرشحين للرئاسة قبل الانتخابات فى فترة حرجة لا تزيد على أسبوع واحد فقط.