عبد الجليل الشرنوبى
الذين قرروا أن (يَدْوِشوا الدَوْشَّةْ)
يحاصرنا مشهد الواقع المجتمعى أينما توجهنا، ويسوقنى القدر إلى تلبية دعوة لحضور حفل زفاف شعبي، مقرُه عطفة تقابل أسوار القلعة العتيقة، لتتحول ساحة الواقع إلى مزيج يقدم نفسه نموذجا لحالة من التناقض بين حضارة وَلَّت مخلفةً آثارها دليلاً على عراقة الأصل، ومشهد فرحة معاصرة تمثل نموذجاً صارخاً لوجعٍ الفروع الذى تستفزه (دَوْشَة) متعددة الأنواع.
كان المشهد محاولات للفرحة تتبدد فى أفق الأمل ذى الأيادى القصيرة والعيون غير البصيرة، بينما للواقع أيادٍ طولى تضغط على العقول والقلوب، وعيون تبصر مواطن الخلل العميقة، استهدافاً لا يرحم، واستنزافاً لا يبقى ولا يذر.
يحمل كل فرد من المدعوين أملاً فى قضاء ساعات تقطع العرض المستمر لضجيج الواقع شديد الوطأة والقسوة، وحين تدقق فى قسمات الوجوه البسيطة التى اجتمعت فى العرس الشعبي،تصل إلى ملمح وحيد سائد (الجموع خدرها الوجع وأنهكتها دَوشة الواقع وصار عليها أن تهرب). وفى الحفل المفتوح مساحات واسعة للهرب عبر مسرح عليه نُصِبْ (دى جى) وأمامه (درامز) وطبلة عملاقة.
لا أعلم على وجه التحديد كيف استطاع صبى الطبلة أن يواصل قرعه عليها بلا انقطاع لأكثر من ساعتين، كانت طبول حرب فى مواجهة جيوش واقع تضغط بعتادها وعدتها على المشاعر والأحاسيس، وبمجرد انطلاق طبول الحرب ذالفرح- تكتشف أنك أمام حالة من (الدوشة) التى لا تميز موسيقى ولا لحن ولا كلمات وبالتالى تطرح واقعاً من السميعة لا علاقة لهم إلا بذواتهم، كلٌ منهم قرر أن يمارس (دوشتهُ) الخاصة التى بها يحارب كل (دوشة) الواقع!
وتحاصرنى الاتهامات بالانفصال عن واقعي، وبكفرى بالأجيال الجديدة وآليات فرحتها، فأجرد نفسى مما أعتقد حيال المشهد العبثى للفرحة المتبددة، وأقرر أن أشاهد الراقصين ذوى الأعمار المتباينة من حولى لأكتشف أننى لا أتابع رقصاً يعكس بهجة، وإنما معارك صاخبة يقودها ويمثلها كل راقص مع خصوم فى الفراغ، فالتعبير الراقص يجسد سباً وبصقاً وضرباً وسحلاً واستخداما لأسلحة بيضاء ونارية. ولا يختلف مشهد الرقص الأنثوى عن الذكورى فى تفاصيل العنف.
أتذكر أفراح الفلاحين فى بلدنا نهاية السبعينيات وأول الثمانينيات، حين تفتح وعيى على بعض دفء اللمة وبراح البهجة وحميمية الإحساس بوطن، مع بدائية الأدوات المتاحة (طبلة وطار) وأحياناً كثيرة كانت النسوة يستبدلن الطبلة بصينية، بينما الكلمات تجسد حالة الأمل الممزوج بالفرحة (افرحى يادى الاوضة.. جياكى عروسه موضة..افرحى يادى المندرة.. جياكى عروسه سكرة..افرحى يادى القاعة.. جياكى عروسه الساعة).
ما بين مشهد الفرح المصرى الذى كان والذى هو كائن مسافات شاسعة تعبر حقيقة عن واقع الأزمة التى نحياها ويحياها الوطن، فالشعب (مدوش) بضبابية مشهده الآنى، وبقسوة مفردات حياته التى باتت توقظه كل ساعة على وخزات التهديدات الإرهابية، والمفاجآت الاقتصادية والتعديلات الإدارية، والمناوشات البرلمانية، والمعارك الكلامية الإعلامية، والتسطيحات الفنية والثقافية، والمراهقات الثورية المعارضة والمؤيدة، جميعها تنصهر فى بوتقة كبرى تحمل عنوان غياب الرؤية الوطنية.
فى مقاله (الأحوال النفسية للمصريين فى الذكرى الرابعة لثورة يناير) يقول خبير الطب النفسى الدكتور خليل فاضل (الناس لا تسأل عن الثورة ولا متى قامت، هم فى حالة إلهاء شديد، حُمّى الأسعار، عبوسُ شبه دائم على الوجوه، فى الشارع، فى المترو، فى القرى فى النجوع، والثورة مشيت.. راحت..غارت، تركت وراءها مجموعة من الاضطرابات النفسية، بعضها غائر عميق مؤلم، وبعضها واضح صريح فاضح، جنونٌ كالغول يحتل مساحة القلب والرئتين ولا يتركها، تفشَّى المرض النفسى وازداد الوعى، صرت أرى مرضى لم أر َمثلهم قط، قبل يناير 2011، صبى جزار، صاحب عربة فول، سائق تاكسي، سائق توك توك، صبى منجِّد، مساعد نجار موبيليا، أمين شرطة، ضباط شرطة، أميين، صغار فلاحين وصغار الموظفين، ناس من النجوع والقرى فى عمق النوبة وأسوان، ستات بيوت وموظفات فى الجهاز الإدارى للدولة).
هذه الآراء موثقة، وهى لا تعبر عن رأى استشارى نفسى واحد، فكل من التقيتهم من المختصين فى هذا المجال أكدوا نفس الواقع، والذى نسوقه اليوم ليكون حاضراً فى وعى المكلف بالإدارة فى زمن الاستهداف، فواقع الأمر أن (الدوشة) التى تحدق بالمصريين جميعاً خلفت تشوهاً فى الحالة النفسية للمجتمع كله، ولا يمكن فصل هذا النتاج عن مقدمات أسهمت فيها الرؤية الأمريكية الجديدة لشرقنا الأوسط، ولا عن أدوات الفوضى الإعلامية التى أنتجها الفعل الإستعمار بالعراق بمجرد احتلالها من قبل القوات الأمريكية، ولا عن نموذج الزعيق الذى فرضته (الجزيرة القطرية) ليكون هو القدوة التى يسير عليها الجميع ليتحولوا بفعل الصراخ الإعلامى المستمر والبث المباشر للقتل والمواجهات والانفجارات وخناقات الفضائيات إلى مرضى (بالمازوخية المرتبطة بالفيتيشية) أى (عشق المحبوبة بدرجة مُذلة واستعذاب الألم معها)، لنتحول جميعاً بوعى أو بغيره- إلى عشاق عميان لرموز إيجابية كانت أو سلبية.
وبالتالى يكون على من يتصدر للإنقاذ فى هذا التوقيت أن يستوعب حجم المسئولية التاريخية تجاه هذا الشعب الذى باتت أسباب (الدوشة) فى واقعه أقسى من مجرد رفع أسعار الوقود فجأة أو تعويم الجنيه بغتة، وأعمق من مجرد زعيق للدفاع عن النظام أو سباب لمعارضيه، إن كل (دوشة) تصنعها سوء الإدارة قرر الشعب أن (يدْوِشها بدوشة أكبر منها) ودور الراعى هو إعادة السكون لنفوس المواطنين ليعود الاستقرار للوطن.