الأهرام
مراد وهبة
الطفل متفلسفًًا
قد يبدو عنوان هذا المقال صادماً. فالرأى الشائع أن الانسان لا يُمنح لقب «فيلسوف» أو «متفلسف» إلا بعد معاناة مع الموروث وما تفرزه من أفكار ناقدة تلتف بعد ذلك حول فكرة محورية ترتبط معها بعلاقات منطقية. ومع ذلك فهذا الرأى الشائع فى حاجة إلى مراجعة شأنه فى ذلك شأن أى رأى يمكن أن يتجاوزه الزمن. وأنا أستند فى هذه المراجعة إلى عبارة قالها أرسطو: «كل الناس يشتهون المعرفة بالطبع. يدل على ذلك أن الحواس تُمتعهم لأنه بصرف النظر عن نفعها فإنها معشوقة لذاتها، وبالأخص احساس البصر. فنحن نؤثره على غيره من الاحساسات ليس فقط حينما نقصد إلى الفعل بل حينما لا نتوخى أى فعل. وسبب ذلك مردود إلى أن البصر أكثر الحواس اكتساباً للمعارف. كما أننى استندت إلى عبارة أخرى وهى أن «الدهشة أساس التفلسف.» وإذا ألفَنا بين احساس البصر والدهشة حصلنا على فكرة ثالثة وهى أن احساس البصر والدهشة متلازمان فى البداية التى تكمن فى أن الطفل يصرخ أثناء خروجه من الرحم، وهو لا يصرخ من الألم إنما يصرخ بسبب التناقض الذى ولدته الدهشة مع الابصار لعالم مغاير، وفى عبارة أخرى يمكن القول إنه التناقض بين احساسه بالأمن وهو داخل الرحم، واحساسه بعدم الأمن وهو خارج الرحم. الطفل اذن فى حالة دهشة، أى فى حالة تفلسف وهو أمر يستلزم أن يكون فيه عقل الطفل مكتملاً بالضرورة. وأظن أن هذه العبارة هى العبارة الثانية الصادمة فى هذا المقال. إلا أن الصدمة يمكن أن تزول بعد إثارة السؤال الآتى: كيف يفهم الطفل لغة هو يجهلها؟ هذا مع ملاحظة أنه يفهمها استناداً إلى ما يراه من إشارات وانفعالات تبدو على وجوه المحيطين به، وهو لا يلبث أن يترجمها بعقله ولكنه عاجز عن التعبير لغوياً.

والسؤال بعد ذلك: ماذا نحن فاعلون بالطفل ونحن نربيه؟

نرتكب جريمة وهى قتلنا لدهشة الطفل، وبالتالى قتل تفلسفه. والغاية من ارتكاب جريمة القتل ادخال الطفل فى نسق مغلق يرتكز على الموروث بما ينطوى عليه من محرمات فتتوارى الدهشة ويمتنع التفلسف، ومن ثم يمتنع الابداع.

الطفل اذن منذ البداية متجه نحو الابداع، ولكنه متجه أيضاً نحو إبطال هذا الابداع. وهذه العبارة هى العبارة الثالثة الصادمة فى هذا المقال. ومع ذلك فالصدمة يمكن أن تزول إذا علمنا ما حدث فى عام 1979 وهو عام متفرد بين أعوام القرن العشرين إذ يمكن أن يقال عنه إنه عام الأصوليات الدينية: ففى يناير صدر قرار من الرئيس الأمريكى الأصولى جيمى كارتر بتدعيم الأصولية الاسلامية بقيادة طالبان فى أفغانستان فى محاربتها ضد السوفيت. وفى فبراير تأسست الجمهورية الاسلامية الأصولية الايرانية بقيادة الخومينى. وفى ذلك العام دعم الرئيس الجزائرى الشاذلى بن جديد الأصولية الاسلامية. كما تأسس الحزب المسيحى الأصولى بقيادة القس جيرى فولول فى أمريكا، وتم ابرام المعاهدة المصرية الاسرائيلية فى مناخ أصولى بقيادة كل من السادات وبيجن. والمفارقة هنا أنه فى ذلك العام نفسه صدرت «مجلة فلسفية للأطفال»، وكانت عبارة عن منتدى للممارسات الفلسفية مع الأطفال يضم فى عضويته منظَرين وممارسين لهم علاقة بالأطفال واشتهروا باهتمامهم بمفهوم «التأويل» عند الأطفال، أى برؤيتهم الذاتية لما يشاهدونه من أحداث فى العالم الخارجى للتدليل على أن الطفل متفلسفاً، أى مبدعاً.

وفى عام 2015 صدر كتاب لمفكر انجليزى اسمه كِن روبنسون عنوانه «مدارس للابداع». وهو مستشار لعديد من الحكومات والمؤسسات الثقافية. وفى مقدمته يتساءل «هل المدارس تقتل الابداع؟». ثم يردفه بسؤال: ما الخطأ الذى نرتكبه فى المدارس؟ ولماذ نرتكبه؟ ويجيب بأن الطفل لديه نهم متواصل للتعلم ولكن هذا النهم يتوارى حتى يختفى مع دخوله المدرسة. والمعنى أنه لن يكون فى الامكان تطوير التعليم من غير المحافظة على ذلك النهم.

والسؤال اذن: كيف تتم المحافظة على هذا النهم؟

بثلاث وسائل فى رأى روبنسون: نقد لوضع قائم، ورؤية لوضع قادم ونظرية للتغيير للانتقال من وضع قائم إلى وضع قادم. ويلزم من ذلك أن ثمة تناقضاً حاداً بين الوضعين، وهو يكمن فى أن الوضع القائم هو ثمرة وضع مضى والذاكرة هى التى تضم هذا وذاك. أما الوضع القادم فليس ثمرة لما فات إنما هو ثمرة لما هو آت، وما هو آت يُخفى أمراً جديداً، أى يخفى ابداعاً.

والسؤال بعد ذلك: هل فى إمكان الذاكرة خنق الثائر عليها وهو الابداع؟

فى الامكان ذلك إذا دُفعت الذاكرة بما تنطوى عليها من «المحرمات الثقافية» إلى الصدارة. والمتعصبون للموروث هم الذين يحيلون الموروث إلى محرمات يدفعون بها إلى عقل الطفل منذ بداية العملية التربوية فى الأسرة، ومن بعدها فى المدرسة حتى يستقيم مسلكه، ولكنه فى هذه الحالة لن يكون أمامه سوى محاكاة الآخرين، ومن ثم يختنق الابداع، وبالتالى يختنق التفلسف فيمتنع الطفل عن أن يكون متفلسفاً. ولا أدل على صحة رأيى من التأمل فى طفولة أينشتين. ففى سن الخامسة رفض الانصياع للأسلوب التقليدى فى التعلم والذى يستند إلى التلقين والحفظ وإلى العقاب البدنى إذا تمرد على هذا الأسلوب. وكانت متعته فى أن يُعلم نفسه بنفسه دون أن يستند إلى المنظومة التعليمية. ولم يكن يستهويه من العلوم سوى الرياضيات. ومن هنا قال عنه مدرسوه إنه طفل مشاغب. وبسبب ذلك استدعى والده لاخباره بأن ابنه هو كذلك. وهنا أثار الوالد هذا السؤال: ماذا تقصدون بلفظ «مشاغب» وكان الجواب «إنه يجلس فى مؤخرة الفصل ويبتسم». ومن هنا سُمى أينشتين الفيلسوف المبتسم فى رؤيته للكون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف