الأهرام
عبد المنعم سعيد
مصــر دولة طبيعيــة مــرة أخــرى
يقول المثل الأجنبى « أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى على الإطلاق»، وكان ذلك هو ما حدث عندما استيقظنا يوم الخميس الماضى على إعلان تعويم العملة المصرية.
أصبحت مصر أخيرا بقرار سياسى واقتصادي، دولة طبيعية مثل كل دول العالم الأخري، أو أغلبيتها الساحقة، لها سعر واحد لعملتها القومية، ويتحدد ذلك من التفاعل بين العرض والطلب الذى يعكس الأوضاع الاقتصادية الحقة للبلاد. أعلم أن المسألة ليست بهذا القدر من الميكانيكية، فهناك فترة من التكيف ضرورية، لكن قرار إعلان سعر الجنيه الأولى واكبته قرارات أخرى مثل رفع سعر الفائدة على الجنيه، وطرح البنك المركزى لأربعة مليارات من الدولارات، وتقييد عمليات الاستيراد الأقل أولوية، والقرارات الخاصة بتشجيع الاستثمار، وغيرها، كلها تكفل أن تكون فترة التكيف أقل ما يمكن، وأن تكون النتيجة إتاحة ليس فقط للدولار وإنما وهو الأهم أن يكون لدينا صورة حقيقية وغير زائفة للاقتصاد المصري.

باختصار أصبحنا دولة طبيعية مثل دول العالم الأخري، وهو هدف طالبت به طوال أربعين عاما من العمل العام؛ فلا يكون لدينا نسبة ٥٠٪ من العمال والفلاحين فى المجالس المنتخبة وهى حالة انفردنا بين بلدان الدنيا، ولا يكون لدينا امتحانات للثانوية العامة لا يشاركنا فيها إلا الدول المتخلفة من الكون، ولا يكون لدينا عملة متعددة الأسعار كما يحدث فى البلاد الأقل نموا. وبغض النظر عن تلك الأمور التى لا يزال استثناؤنا جاريا من العرف الدولى العام، فإن المطلوب الآن أن تأتى الخطوات الاقتصادية الأخيرة بنتائج طيبة تكفل مستويات عالية من النمو. ومثل ذلك يحتاج تحسنا كبيرا فى مناخ الاستثمار والتى تشمل الاستقرار السياسى والاقتصادي، وأكثر منه إجراءات الاستثمار المعروفة بممارسة الأعمال والتى مكانتها فيها ١٢٢ بين ١٩٠ دولة. هناك أمور أخرى تستحق الاهتمام العام ولكن من بينها فإن السياسة الضريبية تستحق اهتماما خاصا لسببين: الأول أن وضوح هذه السياسة وعدالتها وكفاءتها بالغة الأهمية للعملية الاستثمارية. والثانى أنه أصبح شائعا الدعوة إلى نوع من الضرائب التصاعدية التى تحمل الأغنياء العبء الأكبر من تمويل النمو، أو هكذا قيل. ووفقا لآخر استطلاعات الرأى العام فإن ٨٥٪ من المصريين يرغبون فى مثل هذه النوعية من الضرائب باعتبارها الأكثر عدالة. وجهة النظر هذه تحتاج إلى مراجعة جدية إذا ما كان هدفنا هو زيادة معدلات النمو لتصل إلى مستويات أعلى بكثير مما هى عليه الآن؛ وأن تساهم الحكومة والموازنة العامة بقدر أكبر من الاستثمارات الوطنية لتحقيق هذا الهدف لأنه وحده هو الذى سوف يكفل زيادة فرص العمل والدخل للفقراء والأقل دخلا. مثل ذلك لن يحدث إلا إذا مازادت موارد الدولة الحالية والتى وفقا لتوزيعها الحالى يوجه حوالى ٨٠٪ من الموازنة العامة للأقل دخلا فى مصر (مرتبات ودعم والفائدة على عجز الموازنة الموجه دعما أيضا للتعليم والصحة والمواصلات العامة والشركات والهيئات المملوكة للدولة وتعمل سواء كانت تكسب أو تخسر). ووفقا لإحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء عن العامين ٢٠١٠/ ٢٠١١، و ٢٠١٤/ ٢٠١٥ (العام الحالى ٢٠١٥/٢٠١٦ لم تدر إحصاءات كاملة عنه بعد، والمرجح أنه سوف يختلف بقدر ما نتيجة التدهور الذى جرى للعملة الوطنية بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الحكومى لأسباب متنوعة) فإن الضرائب مثلت ٧٢٪ و ٦٦٪ تقريبا من الإيرادات العامة للدولة (٢٦٥٢٨٦ و٤٦٥٢٤١ مليار جنيه على التوالي)، والبقية جاءت من المنح وإيرادات أخرى متفرقة. الملاحظ هنا أن الضريبة على الدخول والأرباح والمكاسب الرأسمالية، أى على الشريحة الأعلى دخلا فوق الإعفاء الضريبى مثلت ٤٧٪ ، ٤٣٪ من إجمالى الضريبة تقريبا، والضرائب على السلع والخدمات التى تشمل كافة المواطنين ومن ثم تبعا للاستهلاك فإن مساهمة الأعلى دخلا فيها كبيرة، ومثلت حوالى ٤٠٪ تقريبا فى العامين.

الأرقام الموضحة أعلاه تشير أولا إلى أن الموارد العامة للدولة شحيحة وينبغى زيادتها؛ وثانيا أن المصروفات مع ذلك تتزايد بسرعة أكبر (٤٦١٨٦٦ و ٧٣٣٣٥٠ مليار جنيه فى العامين)؛ وثالثا أن الأعلى دخلا فى مصر يدفع فعلا النصيب الأكبر من الضرائب. هذا يجعل الأهداف القومية تدور حول زيادة الموارد الضريبية عما هى عليه الآن، ولا يكون ذلك إلا إذا كان هدفنا هو اتساع القاعدة الضريبية فى البلاد أى عدد الذين يدفعون الضرائب فعليا، والحصيلة من الضرائب الأخرى غير الدخل والمبيعات (الملكية على سبيل المثال ،التى كانت ٥٪ و٧٪ فقط فى العامين). وبصراحة، وعلى ضوء التجربة السابقة فإن الضرائب الصاعدية لا تحقق هذا الهدف لأنها أكثر تعقيدا بكثير من الوضع الحالى الذى يعفى الأقل دخلا، ثم يضع شريحة ضرائبية تشكل نسبة من الدخل والاستهلاك. فالثابت فإن الضريبة التصاعدية تحبط الاستثمار، وتشجع على التهرب الضريبي، وتعقد الأمر بالنسبة للأجهزة الضرائيبية وعمليات تحصيل الضرائب. وفوق أنه لا ينبغى تعليق عمليات اقتصادية بحتة بأثقال اجتماعية تنفى الغرض الاقتصادى منها وهو الاستثمار وزيادة معدلات النمو، فإن الضريبة القائمة على النسبة الثابتة (كانت ٢٠٪ وأصبحت ٢٢.٥٪) تحتوى على بعض من التصاعدية لأن ذات النسبة من دخول عالية تؤدى إلى حصيلة ضرائب أعلي.

المهم فى النهاية ألا نستسلم للشعارات البراقة كما فعلنا من قبل عندما تناولنا سياستنا المالية وسعر العملة الوطنية، فالعدالة الحقيقية هى التى تؤدى إلى المزيد من الاستثمارات وفرص العمل والإنتاج الذى يعطى الحكومة الفرصة على المزيد من الاستثمارات العامة، ويعطى الفرصة لرجال الأعمال للاستثمار، وللمواطنين ما يكفى التحرك فى مجتمع ودولة توفر مناخا اقتصاديا مستقرا للمنتج والمستهلك معا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف