لم يهزم ترامب هيلاري كلينتون وحدها.. وإنما هزم مجموعة متنوعة من الخصوم. هزم ترامب خبراء ومنظمي استطلاعات الرأي. والذين صدقوها. تلك الاستطلاعات التي ظلت طوال الحملة الانتخابية باستثناء فترة محدودة جداً تتحدث عن تقدم هيلاري علي منافسها.. ولذلك كانت صدمة كبيرة لمن اعتمدوا في توقعاتهم وتحليلاتهم للمشهد الانتخابي الأمريكي علي هذه الاستطلاعات. لدرجة جعلت بعض الأمريكيين يقولون وهم يتابعون تقدم ترامب في ولاية بعد أخري. خاصة في تلك الولايات المتأرجحة بأنهم لن يصدقوا مستقبلاً استطلاعات الرأي.
.. وهزم ترامب أيضاً الإعلام الأمريكي الذي ناصبه العداء. وخاض هجوماً شديداً ومستمراً عليه. واستنكر مجرد ترشحه في هذه الانتخابات الرئاسية. ناهيك عن توليه رئاسة أمريكا. ظل طوال الوقت يُشَّهِر به. ويلاحقه بالاتهامات.. يفتش عن أخطائه وخطاياه. ويكشف فضائحه. وهي كثيرة ومتنوعة ولا تقتصر فقط علي تهربه من الضرائب أو تحرشه بالنساء واحتقاره لهن. كما هزم ترامب أيضاً أقطاب ورموز الحزب الجمهوري. الذي ترشح عنه وباسمه. خاصة الذين تخلوا عنه ولم يدعموه. بل ومنهم من جاهر بإعلان تأييد ودعم منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون علي غرار ما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب.. وهكذا وبدون دعم هؤلاء ومساندتهم ولو معنوياً فاز ترامب. وهو ما يعني أنه لن يكون في حاجة لتسديد فواتير لهم. خاصة أن حزبه سيطر علي الكونجرس أيضاً.
كذلك هزم ترامب كل حلفاء أمريكا. سواء في أوروبا أو خارجها. خاصة في منطقتنا. وتحديداً منطقة الخليج.. فقد جاهر الأوروبيون بالتعبير عن انزعاجهم من احتمال فوز ترامب بمقعد رئيس الولايات المتحدة في ظل ما أبداه خلال حملته الانتخابية من مواقف تخرق قواعد التحالف الأمريكي الأوروبي القائم منذ عذة عقود مضت.. ويزيد من انزعاج الأوروبيين أن يشجع فوز ترامب القوي والأحزاب المتطرفة والعنصرية في أوروبا ويمنحها دفعة للوثوب علي السلطة في بعض البلاد الأوروبية.. وذات الانزعاج أعربت عنه دول خليجية عربية. ومعها أيضاً إيران من احتمال فوز ترامب.
وهكذا.. هزم ترامب في معركة انتخابية واحدة عدداً من الخصوم داخل وخارج أمريكا معاً.. وقبل أن يبادر أحد ويضيف إلي هؤلاء الخصوم الذين هزمهم ترامب المؤسسة ذات النفوذ التي تحكم بالفعل أمريكا. وذلك استناداً إلي أن هيلاري كلينتون هي ابنة هذه المؤسسة. كما روج لذلك ترامب طوال حملته الانتخابية للنيل منها. وفض الناخبين عنها. ودفعهم لعدم منحهم أصواتهم لها.. أسارع للقول بعدم صحة ذلك.
الأغلب أن هذه المؤسسة الحاكمة في أمريكا ذات ذات النفوذ. هي التي اختارت ترامب لتولي منصب رئيس أمريكا وجندته وفضلته علي هيلاري كلينتون.. والأمر هنا لا يتعلق باستعداد أمريكا أو عدم استعدادها لتولي سيدة رئاسة أمريكا. أو بالرغبة أو عدم الرغبة في تولي شخص متهور منفلت اللسان منصب رئيس أمريكا. أو كما وصفته هيلاري بأنه مدفع منفلت.. الأمر يتجاوز ذلك أو تلك المسائل الفرعية.
لقد رأت هذه المؤسسة ذات النفود والحاكمة في أمريكا قبل ثماني سنوات مضت أن باراك أوباما هو الرئيس المناسب. حيث كانت أمريكا تواجه انتقادات عالمية وإداراتها تواجه انتقادات داخلية. وألحقت بها واقتصادها الكثير من الضرر والأذي. وقادت هذا الاقتصاد للوقوع في أزمة مالية حادة وعنيفة. انتقلت عدواها إلي جميع أنحاء البلاد. وأفقدت الكثيرين في أمريكا أعمالهم. وضمتهم إلي صفوف العاطلين.. واليوم تري هذه المؤسسة ذات النفوذ والحاكمة في أمريكا أن وجود ترامب في البيت الأبيض بما عبر عنه من أفكار ورؤي هو الأنسب والأفضل لها ولأمريكا التي فقدت خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من نفوذها في العالم. وتحتاج أن تستعيد ما تقدر عليه من هذا النفوذ العالمي الضائع والهيبة الدولية المفقودة بإعادة صياغة علاقاتها مع كل العالم. وخصوصاً مع حلفائها.
إن ترامب فاز في هذه الانتخابات الرئاسية. ليس لأنه تحدي تلك الطبقة ذات النفوذ والحاكمة في أمريكا. والتي تمسك بيدها كل خيوط اللعبة السياسية والعملية الاقتصادية. كما بدا وهو يخوض حملته الانتخابية حينما خصص الكثير من كلامه لانتقادات "الطبقة السياسية" التي تنتمي إليها منافسته هيلاري. واتهامها بالفساد. وإضعاف أمريكا. وإفقادها هيبتها العالمية. وتحالفها مع الجماعات الإرهابية. أو علي الأقل سكوتها علي خطرها وعدم الجدية في مواجهتها.. وإنما فاز ترامب في هذه الانتخابات لأن هذه الطبقة ذات النفوذ والحاكمة في أمريكا وجدت فيه شخصاً مناسباً لتحقيق الأهداف التي تسعي لتحقيقها في هذه المرحلة.ويجب ألا نعتد هنا بما قيل ويقال. وسوف يقال أكثر عن انفلات ترامب وعدم إمكانية التنبؤ بمواقفه وتصرفاته. وهو ما قد يجعل منه رئيساً خارج سيطرة هذه الطبقة ذات النفوذ والمسيطرة سياسياً واقتصادياً في أمريكا.. فمن تابع الحملة الانتخابية لترامب وأدائه خلالها سوف يكتشف أنه تراجع عن الكثير مما قاله في بداية هذه الحملة. والذي في الأغلب أراه صادماً حتي يفرض نفسه واسمه علي الناخبين. ويفرض نفسه عليهم. ويستولي علي مساحة من اهتمامهم وتفكيرهم. سواء ما قاله عن طرد المسلمين من أمريكا. ومنع استقبالهم أو دخولهم أمريكا. أو ما قاله حول العلاقة مع المكسيك وحلفاء أمريكا في العالم في أوروبا ومنطقة الخليج.وإذا كان ترامب التزم بتعليمات القائمين علي إدارة حملته الانتخابية بانضباط تصرفاته والالتزام في تصريحاته. وحتي التوقف عن التغريد إلكترونياً. فإنه سوف يلتزم بما سيقول له المستشارون الذين سوف يحيطون به. وبما ستمليه عليه المؤسسات المهمة داخل الحكم مثل المؤسسة العسكرية. والمؤسسة الأمنية والاستخباراتية.. ولا ننسي أن حملة هيلاري كلينتون أسهمت في تجسيم انفلاته وتهوره في الكلام والتصرف.
والأغلب أيضاً أن الطبقة ذات النفوذ والمتحكمة في أمريكا تدرك ذلك. ولهذا وقع اختيارها علي ترامب رئيساً. وهي وظفت اندفاعه وتهوره في خلال الحملة الانتخابية لتجذب أصوات الناخبين الأمريكيين إليه. وحتي يتمكن من الفوز بالانتخابات. رغم أنه ليس له دور سياسي سابق أو خبرة سياسية له. ورغم الفضائح التي لاحقته.. بما يعني أن هذا التهور والاندفاع عن قصد. ومتعمداً. لأنه خاطب بذلك ما كان يقتنع به قطاع عريض من الأمريكيين. وكانوا لا يجاهرون به.
إنها باختصار لعبة الديمقراطية الأمريكية!!