المستشار محمد محمد خليل
خبرة القاضي وثقافته "2/2"
قضية أخري قدمتها النيابة العامة إلي محكمة الجنايات. تكشف عن خلل اجتماعي واقتصادي بمصر مازلنا نعاني منه حتي الآن.
لدي فحص الأوراق تبين أن المتهم أب للمجني عليه البالغ من العمر أربعة عشر عاما قام بضربه عقابا له حتي أدي الضرب الي وفاة الابن.. والواقعة تتحصل في أن الأب يعول أسرة كبيرة العدد من الأولاد. الأكبر فيهم هو المجني عليه. وأم لا تعمل والاب مريض يعمل يوما ويتعطل أياما.. الأسرة تعتمد كلية علي عمل الابن الأكبر الذي يعود عليه وعلي أسرته بمبلغ خمسين جنيها في الأسبوع.. طفل يعول أسرة. ويتعلق برقبته الانفاق عليها. حرم من التعليم من اللعب مثل أقرانه. حرم من حياة الطفولة التي يتمتع بها الاطفال أقرانه. لم يعرف كيف يحمل كتبه وكراساته. وأقلامه في حقيبة حتي ولو كانت من القماش يذهب بها الي مدرسته يتعلم ويلعب وينفق وقت الراحة قروشا قليلة في شراء الحلوي. أو في اللعب ببعض الألعاب.
رآه والده يلعب الكرة الشراب في الشارع. فتعجب والده من تواجده يلعب في وقت المفترض فيه أنه متواجد في محل عمله.
يسأله : لماذا لم يذهب إلي عمله.. قال الابن: "جئت لاشتري شيئا للأسطي" اقتاده الي المصنع الذي يعمل فيه. يفاجأ بكلام الحارس يخبره ان الابن لم يأت إلي العمل منذ أسبوع.. اشتعل جنون الأب.. وذهب عقله من تيقنه ان المرتب الاسبوعي ضاع وضاعت معه حياة الاسرة في اسبوع رغم ضآلة المبلغ ولامتاع لهم غيره وسيطر الغضب علي الاب الذي سحب الابن المسكين الي المنزل ليأمر الأم المكلومة بمساعدته في إحكام وثاق الطفل لينهال عليه ضربا بذراع مكنسة يدوية.. لم يوقفه صراخ الابن ورجاؤه إنما أوقفه انتهاء الصراخ وسكون الجسد لم يعد الطفل يتألم.. لم يعد يصرخ. فيتوقف الأب عن الضرب يحمله مسرعا إلي أقرب مستشفي ليخبره الطبيب بوفاة الطفل العائل لأسرة ضائعة.
مات المحروم من حياة الطفولة.. من الاستمتاع بسنه الغض من حنان الحياة التي لم تشعر به لم نشعر بوجوده يلعب. ويتعلم ويتدلل علي والديه مثل كل اقرانه.. لم يحزن عليه أحد سوي والده الذي جني عليه. فأتي به الي حياة الفاقه والحرمان وأمه المعذبة وقد شاركت في مصيبته وكذلك القاضي الذي ينظر أوراق قضية والده. وكان الحكم الملائم لتلك المصيبة الاجتماعية والانسانية الكبري هو معاقبة الاب بالحبس لمدة سنة مع وقف تنفيذ العقوبة.. وقالت المحكمة في أسباب حكمها أن المجتمع هو الجاني الحقيقي علي هذه الاسرة كاملة اذ ان مثلها لها في رقبة المجتمع كل الحق والرعاية والعناية والايواء وقبل كل ذلك حق التوعية. والتوجيه هذه الاسرة وأمثالها لها حق معلوم يحتاجه كل محروم من نعمة القدرة علي الكسب ومواجهة أعباء الحياة.. واضاف الحكم ان البلاء الذي احاط بالاب والاسرة كلها. اصعب الاف المرات من حبس المتهم "الاب".. ولن يعود حبسه علي الاسرة الا بزيادة تشردها وضياعها الذي سببه الفقر وعمقه وساهم فيه ضعف العقل وجفون المجتمع.
اما قلت - سابقا - كم يعاني القاضي الجنائي في عمله القائم علي عمق الخبرة والثقافة.