يبدو أن الشرطة المصرية لا ترى فى نكبة أبناء محافظة البحر الأحمر، جراء السيول الأخيرة، سببا كافياً لتحمل انفعالات المواطنين هناك، أو حتى احتجاجاتهم، مطالبين بإقالة المحافظ، أو غير المحافظ، أو حتى إقالة جميع مسؤولى الدولة، نتيجة القصور الكبير فى التعامل الرسمى مع الأزمة من جهة، ونتيجة الخسائر الفادحة التى لحقت بأملاكهم ومقتنياتهم، ناهيك عن البنية التحتية المدمَّرة، والأرواح التى أُزهقت غرقاً، بفعل ارتفاع منسوب المياه فى الشوارع، دون أى مساعدات عاجلة، وهو الأمر الذى كشف عن عدم وجود أى استعدادات من أى نوع لمواجهة مثل هذه الكوارث، سواء من حيث السدود، أو جهات ووسائل الإنقاذ.
يوم الجمعة الماضى، خرجت مسيرات احتجاج فى مدينة الغردقة، تطالب بإقالة السيد اللواء المحافظ، عن تقصيره فى مواجهة الأزمة- حسب تقييم المواطنين- والتى لقى فيها 14 شخصاً على الأقل حتفهم، وفقدان عشرات آخرين، إلا أن الشرطة قامت بالقبض على عدد منهم، حسبما شاهدنا فى الصور القادمة من هناك، فى الوقت الذى كانت فيه مدينة رأس غارب تشهد احتجاجات مماثلة لعدم حماية ظهر المدينة من الفيضانات التى تأتى من الجبال، وعمل مخرات، أو مصدات، أو سواتر ترابية.
الغريب فى الأمر أن محافظ البحر الأحمر على رأس المحافظة هناك منذ عام 2012، حيث كان محافظاً لبورسعيد قبل ذلك، وتم استبعاده منها بعد شهرين فقط، نتيجة أحداث الاستاد الدامية، ويقول مواطنو رأس غارب: «إنه على مدى الأعوام الأربعة الماضية شهدت المدينة العديد من الكوارث الطبيعية، خاصة السيول، ولم يتخذ المحافظ أى إجراء من شأنه حماية المدينة، ورغم ذلك لم يتم تغييره، فى الوقت الذى تعاقبت فيه ثلاثة أنظمة، وأربع حكومات، وكأن المحافظة بمحافظها ومسؤوليها خارج حسابات الدولة، أو فى طى النسيان».
أعتقد أن الاحتجاجات على الممارسات الإسرائيلية مع الأشقاء الفلسطينيين، أو حتى مظاهرات الاحتجاج على التنازل عن الجزيرتين المصريتين، أو احتجاجات البطالة والبحث عن العمل، يجب أن يختلف التعامل معها عن ذلك التعامل مع المكلومين فى ذويهم، أو المنكوبين فى منازلهم ومزارعهم، أو المضارين فى مشروعاتهم ومتاجرهم، إضافة إلى ذلك أننا هنا أمام مطلب مشروع، وهو إقالة المسؤول الذى ساهم، ولو بممارسات سلبية، فى عدم مواجهة مثل هذه الكوارث المنتظر حدوثها بين لحظة وأخرى.
ما جرى أيها السادة فى محافظة البحر الأحمر، وتحديداً فى مدينة رأس غارب، كان يجب أن تُقال أو تستقيل معه الحكومة كاملة، بما فيها المحافظ، أما وأن شيئاً من ذلك لم يحدث، فكانت على الأقل إقالة المحافظ واجبة، لا تنتظر أبداً مظاهرات من هنا، أو احتجاجات من هناك، أو كان عليه أن يبادر بالاستقالة، احتراماً لتلك الأرواح التى ذهبت إلى بارئها، نتيجة قصور إدارى واضح، لا يقبل التبرير أو التأويل، بل كانت الشجاعة الأدبية تقتضى الاعتراف بذلك، احتراماً لعقلية ذوى الضحايا.
فى الوقت نفسه، أعتقد أنه يجب على جهاز الشرطة تغيير ثقافته فى التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات، تبعاً لطبيعة كل مظاهرة، حتى فى وجود قانون لا يُميّز، أو لا يضع مثل هذه الأمور فى الاعتبار، يجب أن تضع فى التقييم، دائماً وأبداً، أن هناك ثقافة التعامل مع كل مظاهرة على حدة، ما الهدف من هذه التظاهرة أو تلك، الفرق بين تظاهرة سلمية وأخرى غير سلمية، الفرق بين تظاهرة فى محيط قصر الاتحادية، وأخرى فى شوارع مدينة رأس غارب، الفرق بين تظاهرة شواذ وعبدة الشيطان، وتظاهرة مكلومين ومنكوبين، متى يقتضى الأمر القبض على متظاهرين، ومتى تتحتم حمايتهم، وذلك منعاً لمزيد من التوتر فى المجتمع، دون مبررات منطقية، اللهم إلا الرعونة فى اتخاذ القرار.
وقد تكون استقالة هذا المسؤول أو ذاك، فى مجتمعنا، هى الأخرى ليست بين أولويات أو ثقافات المقصرين فى أداء واجباتهم، إلا أننا نشهد إقالات غير مبرَّرة على الإطلاق، فى مواقع كثيرة، نتيجة وشاية من هنا، أو تقرير أمنى من هناك، وهو ما يتطلب تغيير هذه المنظومة، باعتماد الأداء أولاً، كأهم مقومات الإبقاء على أى مسؤول، أو الخلاص منه، وفى حالتنا كان الأمر يقتضى تشكيل لجنة على أعلى مستوى للتحقيق فى الأمر، وكتابة تقريرها حول هذه الكارثة بأقصى سرعة، حتى لا تكون هذه الأرواح قد ذهبت سُدى، دون أى جزاء أو عقاب، أو حتى لضمان اتخاذ الإجراءات الواجب تفعيلها لعدم تكرار ذلك فى المستقبل.
على أى حال، مازالت الكرة فى ملعب رئيس الوزراء، وقد رأى بنفسه حجم الدمار فى مدينة رأس غارب، وواجه بنفسه انفعالات المواطنين، نأمل أن يتخذ الإجراءات الإدارية اللازمة فى هذا الشأن، والتى من شأنها تهدئة المواطنين، وأيضاً الإفراج عن هؤلاء الذين عبروا عن غضبهم، إلا إذا كنا سوف نطلب من المواطن مستقبلاً ألا يكون لديه إحساس من أى نوع، فلا ينفعل حتى مع الجثث التى كان يستخرجها بنفسه من بين المياه والطين والأنقاض، وأعتقد أن هذه ليست طبيعة الشخصية المصرية، بل لا يمكن أن تكون طبيعة النفس البشرية عموماً، حتى لو كانت الحكومة نفسها قد وصلت إلى هذه المرحلة، أو مثل ذلك الشعور.