تعالوا بنا إلى مجلس الشعب المصرى عام ١٩٨٧، لننظر كيف كان، وما الذى حدث:
(١) فى صبيحة يوم ٢٩/١١/١٩٨٧ كان المجلس على غير العادة ممتلئاً.. لقد تم التنبيه على كل أعضاء المجلس من الحزب الوطنى بالحضور والاحتشاد للموافقة على ترشيح المستشار عبدالسلام حامد أحمد مدعياً عاماً اشتراكياً، ولمواجهة أى موقف غير متوقع.. أخذ المستشار المأمون الهضيبى الكلمة، ووقف يعلن أسفه وأساه معترضاً على الترشيح.. ثم قال: وحين أعترض فأنا عندى معه تجربة شخصية فقد عاشرته فى السجن الحربى وهو يحقق معى ومع زملائى، وعاينته وعايننى، ومكثنا أشهراً طويلة يحقق معنا ومع إخوتنا بأساليب نحن نعرفها جيداً.. ولكننى لن أعتمد على شهادتى، ولن أطلب منكم ذلك، ولا على تجربة العشرات، ومنهم أعضاء فى مجلس الشعب ومنهم أشخاص آخرون يمكن أن يتقدموا -لو أتيحت لهم الفرصة- ليشهدوا.. لن أعتمد على هذا أبداً.. ولكن سأعتمد على أحكام قضائية ومعروفة ومشهورة، حكم محكمة الجنايات فى قضية كمشيش.. هذه القضية كان السيد المرشح لمنصب المدعى العام الاشتراكى أحد القائمين على التحقيق فيها فى السجن الحربى.. وقد قضت محكمة الجنايات بتبرئة جميع المتهمين المعترفين أمام النيابة، وقررت أن جميع الأقوال التى أدلى بها المتهمون وجميع الاعترافات أُخذت بالتعذيب والإكراه الذى أشرف عليه أعضاء النيابة، ومنهم السيد المستشار المرشح.. وهذا الحكم حاز قوة الشىء المحكوم فيه وأصبح عنواناً للحقيقة، لا يستطيع أحد أن يعود للطعن فيه أو محاولة نقضه.. إن الأحكام الجنائية -فى شريعة القانون الذى يجب علينا أن نحترمه- لها قوة الشىء المحكوم فيه، ولها حصانتها التى لا يجوز بعد ذلك أن نعاود الكلام فى شأنها، ولها دلالتها التى لا يمكن أن نغفل عنها وإلا خالفنا القانون وضربنا بالأحكام القضائية عرض الحائط.. وقضية كمشيش قضية موجودة، فلمَ العجلة؟ لماذا لا نأتى بها وندرسها؟ لماذا لا نقرأ صفحاتها؟ لماذا لا نقرأ الحكم الصادر فيها وأسبابه، حتى يأخذ كل ذى حق حقه وحتى ينال كل شخص ما له وما عليه؟ ما الداعى ونحن أمام منصب خطير، كهذا المنصب، أن يطلب منا -بين عشية وضحاها- أن ننظر فيه وليس لدينا فرصة واحدة لكى نتحرى أو ندرس أو يكون لنا إجراء يبنى عليه رأى صحيح سليم يثق الناس فيه بأعمالنا.. ويثق الناس فيه بضمائرنا.. وأننا نؤدى واجبنا على وجه يرضى الله، ويصون حريات الناس وكرامتهم وأعراضهم وأموالهم؟ لماذا العجلة، وتحت يدى قرار آخر من المستشار رئيس محكمة الاستئناف الذى قام بالتحقيق مع السيد المستشار المرشح لمنصب المدعى العام الاشتراكى؟ هذا التقرير (ولدى صورة منه والأصل موجود فى وزارة العدل ويمكن إحضاره والاطلاع عليه، ويمكن دراسته) انتهى إلى إدانة السيد المستشار المرشح بارتكاب جنايات التزوير فى أوراق رسمية، وجنايات تعذيب المتهمين.. وهذا التحقيق من الوثائق الرسمية، وسأودع صورته التى معى فى المجلس، ولكن أعتقد أنه كان من واجب اللجنة العامة، ومن واجب حضراتكم أن تطلبوا أصل الأوراق، وأصل القضايا، وأن تدرسوا الموضوع -على الأقل- دراسة متأنية تليق بجلال المنصب وخطورته الذى يرشح له السيد المستشار.. فهذا التحقيق أدانه بجريمتين: جريمة التعذيب.. وجريمة ارتكاب تزوير فى أوراق رسمية بأنه أثبت اعترافات غير صحيحة للأشخاص المتهمين، وأثبت أقوالاً غير صحيحة للشهود فى محاضر التحقيق التى قام بها.. هذا هو المرشح الذى يرشح لمنصب من أخطر مناصب هذه الدولة.. صحيح أننى أعرف أيضاً أن هذا التقرير الصادر من السيد رئيس محكمة استئناف القاهرة بإدانة السيد المستشار عُرض على اللجنة الخماسية فى محكمة النقض، أو اللجنة المختصة بالإذن بإقامة الدعوى فلم توافق عليه وأمرت بحفظ التحقيق.. وإننى أقول لماذا لا نطلب أسباب قرار اللجنة الخماسية ونعرف لأى سبب قررت عدم الإذن؟ هل ثبت لديها عدم صحة الاتهام نهائياً؟ هل ثبت لديها أن الاتهام مشكوك فيه؟ أم ماذا ثبت لديها؟ هل نتخذ قرارات خطيرة مع هذه الجهالات؟ ثم قاعدة أخرى.. هل خلت البلد من شخصية جديرة بهذا المنصب حتى نرشح له شخصاً، على الأقل، محل اتهامات؟ أليس من الأصول القانونية والشرعية أن من يتولى مناصب ذات قيمة وذات اعتبار ويكون فى يده تأثير كبير وخطير على حريات الناس وعلى أعراضهم وعلى أموالهم، أن يكون هذا الشخص بعيداً عن الشبهات؟ أليس هذا شرطاً حتى ولو لم يثبت عليه أى إجراء؟ فلنفرض أنه لم يثبت، أليست هذه الأحكام القضائية من جهات لها خطورتها؟ محاكم.. لجنة تحقيق برئاسة مستشار رئيس محكمة استئناف القاهرة.. هؤلاء لو رأوا فيه هذه الآراء، ورأى غيرهم أنها ليست متكاملة وليست صحيحة، ماذا يكون الحل؟ هل يثق الناس بعد ذلك فى صحة هذا الشخص، أو يطمئنون إليه؟ هل تُبنى الدولة على أشخاص محل اتهامات؟ هل أجدبت مصر ولم تلد من يستطيع أن يتولى هذا المنصب؟ أليس فى رجال القضاء الحاليين والسابقين شخص بعيد عن أن تلوكه الألسنة؟ ألم يوجد شخص أمين مشهود له بالأمانة من الناس بعيد عن الشبهات؟ لماذا الإصرار على شخص توجه إليه السهام من أكثر من جانب؟ حينئذ قاطعه الدكتور رفعت المحجوب، رئيس المجلس، يرجو منه الاختصار، وذلك بعد أن لاحظ أن «الهضيبى» يكرر ما يقول.. فرد عليه بقوله: نحن نختصر، ولكن يجب أن نقول ما نشعر به. فقال رئيس المجلس مؤكداً: هذا صحيح.. فاستأنف «الهضيبى» موجهاً حديثه لرئيس المجلس: لما سيادتك تكون فى السجن الحربى وتنهال عليك السياط، والمحقق الذى يحقق معك عندما يأتى إليك أو تذهب إليه وتقول له، ثم يقول لهم خذوه واضربوه وأهينوه لكى يرجع مرة ثانية.. حينئذ صفقت المعارضة، غير أن «الهضيبى» استدرك قائلاً لرئيس المجلس: لا أوقفك الله هذا الموقف، ولا زج بك فى مثله.. فرد «المحجوب»: ولا أنت ولا غيرك، ونحن لا نتكلم عن هذه المواقف.. قال «الهضيبى»: إننى لا أريد أن أقول هذا، لأننى لن أتكلم عن نفسى ولا أتكلم عن زملائى، إننى أتكلم بأوراق رسمية عن غيرى.. عن أناس.. عن قضية لا شأن لنا بها.. قضية كمشيش ليست قضية الإخوان، ولم يكن متهماً فيها أحد منهم، ولم تكن بسبب عقيدة إسلامية.. لا من قريب ولا من بعيد.. إننى أتكلم عن أحكام قضائية، وإننى قلت إننى أجل نفسى عن أن أقف شاهداً أو أتهم إنساناً.. نحن والحمد لله أعرضنا عن كل من آذانا (وللحديث بقية إن شاء الله).