أن يتسلط الإنسان على الإنسان، أو يتسلط الشيطان على الإنسان، فهذا أمر معروف ومتوقع، وحذرت منه الأدبيات الإسلامية والعالمية.. أمَّا أن يتسلط الإنسان على نفسه، أو يسلطه الله على ذاته؛ فهذا أخطر أنواع التسلط، وأشدُّه تدميرا للنفس والآخرين.
اعتبر القرآن ذلك "ظلما للنفس"، و"نسيانا للنفس"، و"خسرانا للنفس"، لذلك حذرت آياته منه، معددة مظاهره، كأن يؤخر الإنسان توبته إلى الله، أو يبارزه بالمعصية، أو يحرم نفسه من ذوق حلاوة الإيمان، ولذة الإقبال عليه تعالى، أو يستمر في فساد طويته، أو يتمادى في ظلمه للآخرين.
لذا حذَّر الله تعالى، من تلك الأنواع المختلفة، لظلم النفس، فقال: "وما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ".(هود:101). وقال: "الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (الأنعام:20). وقال: "فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ".(فاطر: 32)، وجاء فيه: "ظَلَمْتُ نَفْسِي". (القصص: 16).
وقال أيضا: "الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ". (النحل: 28). وقال: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ". (الحشر: 19).. أي: لا تكونوا كالذين تركوا أداء حقوق الله، "فأنساهم العمل لمصالح أنفسهم، التي تنفعهم في معادهم، فإن الجزاء من جنس العمل"، بحسب "ابن كثير".
وحذر الله تعالى أيضا من أشدِّ ألوان "التسلط على النفس"، ألا وهو تأخير التوبة، فقال: "وليستِ التَّوبة للَّذين يعملونَ السَّيِّئاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن".(النساء: 18)
وقال إن من يعمل سوءا، أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله، ويتوب إليه؛ يجد الله غفورا رحيما. فقال تعالى: "ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفسَهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً".(النساء:110). وقال: "ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين عَمِلُوا السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ تابوا من بعدِ ذلك وأصلَحُوا إنَّ ربَّك من بعدِها لغفورٌ رحيم". (النحل:119).
وورد في الحديث: "قال النَّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: "إِنَّ الله عزَّ وجَلَّ يقْبَلُ توْبة العبْدِ مَالَم يُغرْغرِ". (صحيح لغيره).
فلا ينفع الإنسان تأخير توبته، حتَّى إذا أشرف على الموت، وآذنت شمس حياته بالغروب؛ أعلنها كتوبة فرعون، لمَّا أدركه الغرق، إذ قال: "آمنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الَّذي آمنَتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلِمين".(يونس:90).
إنها "توبة مفلس"، أحاطت به خطيئته، ولم يبقَ لديه وقت، لارتكاب ذنوب أخرى؛ فلا قبول لها.
إن الله يعفو عن ظلم المرء نفسه، إذا عاد إليه، "بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، والمصائب والبلايا المكفرة، ونحو ذلك، بخلاف "ظلم الشرك" فإنه لا يُمحي إلا بالتوحيد، "وظلم العباد"، الذي لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أهلها، واستحلالهم منها"، بحسب العلماء.
فلا علاج لهذه المظالم، جميعها، سوى بالعدل، والإنصاف، وإعادة الحقوق. قال ابن القيم: "أصل كل خير: العلم، والعدل.. وأصل كل شر: الجهل، والظلم".
وفي هذا يُروى أن "بعض عمال عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، كتب إليه: "أما بعد فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمُّها به فعل". فكتب إليه عمر: "أما بعد.. فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا؛ فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه مَرَّمَتُها. والسلام".
أمَّا من لم يتب عن ظلمه لنفسه، وللآخرين، فقد أعدَّ الله له عقابا شديدا. فقال تعالى: "فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ".(الزخرف:56)، أي: "فلمَّا عصانا قومُ فرعونَ جعلناهم سلفاً، وعبرةً لمن عمل عملهم، من بعدهم".(ابن كثير).
وخزائن الله ملأى بأنواع النكال. قال تعالى: "قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ".(الأنعام:65).
وقال: "سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ".(الأنعام: 124). قال الرازي: "قدَّم الصغار على الضرر؛ لأن القوم إنما تمردوا طلباً للعز والكرامة، فقابلهم بضدِّ مطلوبهم، وهو الصغار، والذل، والهوان". وتلك سنة الله، لا تبديل لها.